بقلم: راغدة درغام – النهار العربي
الشرق اليوم- هنا المعضلة الأبرز: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يزداد إصراراً على رفض قيام الدولة الفلسطينية، واثقاً من دعم القاعدة الشعبية الإسرائيلية لتعنّته في وجه الرئيس الأميركي جو بايدن، ومباركتها للحسم العسكري في حرب غزة ولسحق “حماس” مهما كانت الكلفة. معضلة، لأنّ الرئيس الأميركي الغاضب من نتنياهو، ويصفه بتعابير نابية، ليس مستعداً لاستخدام أدوات الضغط الجديّة لإيقافه عن مسيرته الإبادية للفلسطينيين، مستخدماً الأسلحة الأميركية والأموال التي يغدقها عليه جو بايدن. فنتنياهو واثق من انتصاره على أي رئيس أميركي حالي أو سابق، في سنة انتخابية، مهما توتّرت العلاقة الشخصية، ذلك لأنّ اللوبي الإسرائيلي المهمّ في الولايات المتحدة يدعم سياسات إسرائيل بشكل قاطع، مهما بدا هناك من انقسام حول شخصية بيبي نتنياهو، شأنه شأن الرأي العام الإسرائيلي الرافض عملياً لحل الدولتين والداعم فعلياً لعقيدة التهجير القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية، وكذلك من الداخل الإسرائيلي، للتخلّص من القنبلة الموقوتة التي تهدّد ديموغرافية الدولة اليهودية.
يعتقد البعض انّ ارتفاع الصوت في كافة أنحاء العالم دعماً لحل الدولتين ولتواجد دولة فلسطين آمنة بجانب دولة إسرائيل آمنة، إنما هو تطوّر مهمّ جديد، يشكّل قفزة نوعية، نظراً لغضب الأميركيين حكومةً وشعباً، من التجاوزات الإسرائيلية اللاإنسانية بحق الفلسطينيين المدنيين في غزة. الخوف ليس فقط من الذاكرة الضعيفة، التي لربما محت القصة الملحمية لقيام الدولة الفلسطينية، وإنما كل الخوف هو من الرهان مجدداً على عزم الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق حل الدولتين في وجه المعارضة الإسرائيلية، الحكومية والشعبية.
وهنا تكمن ورطة الدول العربية التي تراهن على جديدٍ ملموس في سعيها الحصول على الحقوق الفلسطينية المتمثلة في حل الدولتين، اعتقاداً منها انّ إسرائيل في حاجة للتطبيع وللتعاون الاقتصادي معها، بما ينطوي عليه من مصالح لإسرائيل، وانّ إدارة بايدن عازمة على تحقيق إنجاز التسوية الكبرى بين إسرائيل ودول الشرق الأوسط العربية منها وتركيا وإيران.
العثرة الأولى هي أنّ لا مجال للتسوية الكبرى المرجوّة التي يستثمر فيها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وفريقه، طالما انّ رئيسه لا يمون على إسرائيل باللياقة، ولا هو قادر على التصرّف بحزم أمامها بصفتها الإبن المدلل الذي يضلّ طريقه. مهما غضب وشتم، انّ جو بايدن لن يتمكن من ذلك الإنجاز الكبير المتمثل في تسوية كبرى، ولن يحقّق ما يتمنى أن يشهد له التاريخ تحت عنوان “عقيدة بايدن”، ما لم يجرأ على استخدام أدوات النفوذ الأميركي مع إسرائيل: السلاح والمال والغطاء السياسي.
لندخل في عمق المعضلة. هل هناك أي معادلة أخرى لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي سوى حل الدولتين؟ بالطبع، لدى إسرائيل الجواب الجاهز بكل ما فيه من وقاحة وهو: انّ الأردن هو الوطن البديل، وانّ على العرب استيعاب الفلسطينيين المهجّرين في بلادهم بدءاً من سيناء في مصر، وانّ على بقية دول العالم أن تقرّ “كوتا” لاستقبال الفلسطينيين المشرّدين من بيوتهم “رأفة” بهم. هذه ليست فقط عنصرية وإنما هي استراتيجية إسرائيلية.
والسؤال إذن هو، ما العمل؟ ما هي الخيارات أمام تعنّت إسرائيلي حكومي وشعبي يلقى دعم الكثير من يهود العالم لدولة يهودية نقيّة- أي بلا فلسطينيين؟
خيار الحرب الشاملة بين الدول العربية وإسرائيل ليس مطروحاً، ولا خيار الحرب الإيرانية المباشرة مع إسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين وحقوقهم. خيار حروب الاستنزاف تستنزف الفلسطينيين بالذات المدنيين، خصوصاً الأطفال والنساء، وهي حروب قد تكون مكلفة لإسرائيل إنما الكلفة النسبية للفلسطينيين أعلى بكثير.
لم نسمع حِسّاً من سوريا ورئيسها بشار الأسد منذ 7 أكتوبر أمام كل هذه المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، كما أمام الضربات الإسرائيلية المتتالية لمواقع مهمّة داخل سوريا بما فيها مطار دمشق. رأي البعض هو أنّ الأسد لن يهرول الى دعم “حماس” مهما كانت عملياتها، لأنّه يكره “الإخوان المسلمين” الذين ساهموا في تمزيق سوريا. السبب الآخر هو الإنذار الواضح من كل من إسرائيل والولايات المتحدة بأنّ الكلفة غالية جداً في حال غامر بشار الأسد بردّه على العمليات الإسرائيلية. حتى إيران التي تلعب دوراً محورياً في بقاء الأسد في السلطة لم ترِد له التورط في الردّ على إسرائيل، بل انّ إيران نفسها حريصة على تجنّب لفت الأنظار اليها والى نشاطاتها داخل سوريا، حتى وهي تتلقّى الضربات الموجعة هناك.
“وحدة الساحات” التي سوّق لها محور المقاومة والممانعة أثبتت وهناً أحرج المحور وعرّى مزاعمه. الأذرع الإيرانية تبعثرت وهي تبحث عن مكانٍ وهوية في زمن التهادنية الأميركية- الإيرانية- الإسرائيلية. إنما كل هذا لا يعني أننا قرأنا الصفحة الأخيرة في فصل ما خلّفته “مغامرات حماس المدروسة” في 7 أكتوبر. فالشرارة قد تكون كافية أحياناً للهيب نيران غير قابلة للإخماد. جنوب لبنان ما زال مفتوحاً على المواجهة الكبرى، كما يبقى أحد مفاتيح الرغبة الأميركية- الإيرانية بتجنّب حرب إقليمية تورطهما.
يمكن الاعتراف بنجاح جهود فريق بايدن، حتى كتابة هذا المقال، في احتواء توسّع رقعة الحرب وفي لجم إسرائيل وشهيتها لحرب على حدودها الشمالية مع لبنان للتخلّص من صواريخ “حزب الله”، واثقة بأنّ الولايات المتحدة لن تتركها بمفردها في حال خاضت حرباً جديّة مع ذراع إيران الرئيسي، أي “حزب الله” في لبنان.
القيادات العسكرية الإسرائيلية ليست مقتنعة بعدم اقتناص الفرصة لحرب مدمّرة لـ”حزب الله”، ولبنان الذي ارتهنه الحزب في معادلة الحرب والسلم- بدلاً من أن يكون ذلك قرار الدولة وقراراً سيادياً. إسرائيل تحمّل الدولة اللبنانية والشعب اللبناني بأجمعه مسؤولية ما يقوم به “حزب الله” والفصائل الفلسطينية عبر الحدود معها، وهي تتحدّى اليوم إدارة بايدن التي تصرّ على عدم تفعيل الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية.
ما يتحكّم بقراراتها هو عقلية الحرب والرغبة بما أسماه نتنياهو بالانتصار الساحق ضدّ “حماس”، مهما عارضت الولايات المتحدة ودول العالم في خطة اجتياحه رفح قبل ضمان أمن المدنيين هناك المشرّدين أساساً على أيادي إسرائيل من بيوتهم في غزة. رجال حكومة الحرب الإسرائيلية قد يأخذون تحدّيهم الى مرتبة جديدة، أي في المحطة اللبنانية، ما لم تتخذ إدارة بايدن قراراً حاسماً بأنّ مثل تلك الخطوة ستلاقي عقاباً وإجراءات ملموسة ضدّ إسرائيل- إجراءات فحواها أنّ الدعم الأميركي لإسرائيل لن يبقى مطلقاً مهما فعلت وتحدّت ورفضت مطالب بايدن الخجولة.
خجولة لأنّ الرئيس الأميركي لا يتبنّى موقفاً حاسماً ضدّ قيام إسرائيل بعمليات عسكرية ضدّ “حماس” في الأنفاق وفي رفح، وإنما يطالب فقط أن تكف إسرائيل عن أنماط انتقاماتها من المدنيين الفلسطينيين بلا هوادة وبلا أي احترام لقوانين الحرب وللمعاهدات الدولية. فليس هناك في علاقة التحالف الأميركي – الإسرائيلي ما ينصّ على حق الرئيس الأميركي الإملاء على إسرائيل ما يجب عليها القيام به، لا سيما في حال حربها مع حركة كحماس وردّاً على عمليات كتلك التي قامت بها حماس في 7 أكتوبر.
إدارة بايدن حريصة ألاّ تبدو بأنّها تتدخّل بقرار يدخل في خانة الأمن القومي الإسرائيلي. إسرائيل تنظر اليوم الى الحرب على “حماس” بأنّها حرب وجودية، وهذا أمر تتفهّمه إدارة بايدن. ما يقلقها هو الفتك الإسرائيلي الهمجي بالمدنيين بأسلحة وذخيرة أميركية. ما تريده هو أولاً الإفراج عن الرهائن لدى “حماس”، والتوصل إلى هدنة ثم الى وقف النار، وفي هذه الأثناء تعمل مع دولٍ عربية على عناصر التسوية الدائمة، والتي تنطوي على ترتيبات يأمل بها فريق بايدن، تشمل إدارة فلسطينية جديدة تقودها سلطة فلسطينية تكنوقراطية وليس “حماس”، وعلى وعدٍ بقيام دولة فلسطينية.
هذه ليست المرّة الأولى التي يبدو فيها أنّ قيام الدولة الفلسطينية وارد. منذ اتفاقيات أوسلو قبل ثلاثين سنة، مروراً بما سُمّي “الرباعية” التي ضمّت الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والأمم المتحدة، للعمل نحو حل الدولتين، توقفاً عند “خريطة الطريق” الى قيام دولة فلسطين بجانب دولة إسرائيل، قاومت إسرائيل بصورة متماسكة كل الجهود والضغوط الرامية الى تطبيق حل الدولتين.
أثناء ولاية الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش قمت بإجراء مقابلة حصرية مع وزير خارجيته آنذاك كولن باول لجريدة “الحياة”، نقلتها كافة وسائل الإعلام الأميركية والعربية والعالمية لسببين: أولاً، لأنّه قال إنّ الرئيس بوش سيعلن عن فكرة إقامة دولة فلسطينية مؤقتة كخطوة انتقالية الى قيام دولة اسمها فلسطين. وثانياً، لأنّ البيت الأبيض أسرع بعد المقابلة الى النأي بنفسه عن فكرة باول، معتبراً انّها مجرد أفكار لوزير الخارجية وليس سياسة للرئيس.
كان الحديث حينذاك، عام 2002، يصبّ في خانة عملية سلام في اطار جدول زمني متفق عليه، يؤدي الى إقامة دولة فلسطينية. تصدّى رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك آرييل شارون لفكرة الجدول الزمني المتفق عليه لقيام دولة فلسطينية، فتراجع جورج دبليو وقال إنّه ليس مستعداً للقبول بوضع جدول زمني. جاء ذلك بعد لقائه شارون، حيث تلقّى شارون ضمانات طمأنته، واتفق الرجلان على استبدال الرئيس الفلسطيني حينذاك ياسر عرفات بقائد فلسطيني آخر.
كان ذلك قبل 22 عاماً، وها نحن اليوم لا نزال نحاول إقناع إسرائيل بمجرد القبول بإعلان مبدأ حل الدولتين لاحقاً في مستقبل بأفق زمني مفتوح. الفارق اليوم انّ السلطة الفلسطينية معترف بها دولياً بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين، وهي تحكم في الضفة الغربية- فيما “حماس” سحبت من السلطة الفلسطينية الحكم في غزة. الدول العربية تتناول المسألة ببراغماتية الترغيب بالسلام وفوائده لإسرائيل، وهي منخرطة مع الولايات المتحدة في محاولة صنع السلام- كما كانت دائماً قبل الاصطدام بالولاء الأميركي القاطع لإسرائيل بأي ثمن.
قدوم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وليام بيرنز الى المنطقة، وعقده المحادثات مع إسرائيل في لحظة المواجهة السياسية بين بايدن ونتنياهو، يعني أنّ بايدن وفريقه طلب من بيرنز المساعدة في إقناع إسرائيل بمجرد بارقة أمل بمؤشر عائم على عدم استبعاد حل الدولتين كلياً.
يستهجن البعض كيف أنّ رئيس الدولة العظمى، الولايات المتحدة الأميركية، التي تنفق على إسرائيل أكثر من 3,8 مليارات دولار سنوياً وتحميها من المحاسبة، كيف يقبل بالإهانة السياسية والشخصية له من قِبل أي رئيس وزراء لإسرائيل، دون أن يتخذ إجراءات عملية نحوه.
لعلّ لصبر جو بايدن حدود، ولعلّه يحوّل إنذاراته النهائية الناعمة الى سياسات حازمة نحو بنيامين نتنياهو. المعضلة أنّ نتنياهو يمتطي ليس فقط التطرّف القاطع كعقيدة له وإنما أيضاً الموافقة الشعبية على سياساته الدموية. فإسرائيل لطالما قالت للعالم الأجمع إنّها لن ترضى أبداً بإقامة دولة فلسطينية بجانبها، وإنّ حل الدولتين إنما هو مسخرة في نظرها، لطالما أوضحت أنّه ليس سوى في مخيّلة الآخرين.
وبالتالي، أمام كل هذه الوقائع، ماذا هناك من خيارات أمام التعنت الإسرائيلي القاطع والواضح؟ من يدرس ما هو مُتاح ليس على أساس قبول إسرائيل بحل الدولتين، وإنما على أساس وضوح رفضها له كلياً؟ والمعذرة على سوداوية هذا المقال، إنّ نتنياهو أطفأ الضوء في نهاية النفق وترك بايدن في الظلام.