بقلم: فارس خشان- النهار العربي
الشرق اليوم– يمكن تحليل الكثير من المعطيات التي حفلت بها “زيارة الأسبوع” التي يقوم بها رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري لوطنه بمناسبة حلول الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري، في الرابع عشر من شباط (فبراير) 2005، لكنّ “اللازمة” التي لم تغب عن المواقف التي أطلقها في أكثر من مناسبة، بعد صمت مطبق استمر منذ أعلن تعليق عمله السياسي في الرابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2022، خصصها لموضوع “الاعتدال”.
وأصاب الحريري في هذا التهديف، فهو “بيت القصيد” ليس في العالم والشرق الأوسط فحسب بل في لبنان أيضًا، إذ إنّ للاعتدال “جنرالات” كثرًا على امتداد الكرة الأرضيّة، لكنّه في لبنان بدأ يفقد حتى “جنوده”، في ظل الاشتباك السياسي الكبير، من جهة أولى، والاختلاف على طريقة التعاطي مع الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، من جهة ثانية، واندماج “حزب الله” في تقديم المواجهة مع إسرائيل على أساس انتمائها إلى نهج إسلامي سبق أن أرساه مؤسسو “الجمهورية الإسلامية في إيران”، من جهة ثالثة.
وقبل مجيء الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، بعد انقطاع استمرّ سنة كاملة، كان واضحًا أنّ “حزب الله” عمل على تجهيز أرضية في القواعد السنيّة في لبنان، من أجل نقل “الحريريّة السياسيّة” إلى “الجماعة الإسلامية”.
تبيّن ذلك من خلال محاولة “حزب الله” العزف على وتر التعاطف الكبير في هذه البيئة السنيّة مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فلم يكتفِ بإتاحة المجال لـ”حركة حماس – لبنان” باستعمال الأراضي اللبنانية لاستهداف شمال إسرائيل فحسب، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ ضمّ ما يسمّى بـ”قوات الفجر” التي جرى تقديمها على أساس أنّها الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان، إلى غرفة عمليات وزوّدها بما تحتاج إليه عملياتها “المنتقاة” من أسلحة، أيضًا.
وبيّنت تقارير عدة أنّ “حزب الله” يتطلّع إلى استثمار هذا “الاندماج العسكري” بتحالف سياسي في وقت لاحق، بحيث يساعد من خلال “حماس – لبنان” هذا التيّار في الجماعة الإسلامية من أجل كسب نفوذ كبير في البيئة السنيّة، ممّا يمكّنه في الانتخابات البلدية من أن يختبر نقاط قوته وضعفه في تهيئة نفسه للانتخابات النيابية المقبلة.
وقد أثار هذا التوجه الذي تعتبره الدوائر الإقليمية والدولية بأنه “تعاضد المتطرفين” في إشارة إلى “حزب الله” و”الجماعة الإسلامية”، تحفظات كثيرة في لبنان، لأنّه بنزع الاعتدال من البيئة السنيّة، سوف تتعزز توجهات انفصاليّة بدأت تشهد نموًا كبيرًا في البيئات المسيحيّة.
وعمل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في عام 1996 على تكوين تحالف انتخابي عريض في البلاد تحت عنوان “نصرة الاعتدال على التطرف”، الأمر الذي أدى إلى خروج الجماعة الإسلامية من مجلس النواب اللبناني، فيما خسر “حزب الله” مقاعده في بيروت وجبل لبنان.
ومنذ بدأ الرئيس سعد الحريري مشواره في السياسة اللبنانية، حرص على تقديم نفسه كزعيم لبناني معتدل، يقدّم مصلحة “لبنان” على ما عداها من مصالح دينية وفئوية وإقليمية.
ولكن مع اندلاع الحرب الإسرائيليّة ضد غزة، تعرّض هذا الاعتدال في البيئة السنيّة لخطر حقيقي، بحيث افتقدت هذه البيئة مَنْ لديه القدرة على أن يميّز بين التعاطف مع فلسطين، من جهة، واستغلال ذلك في تقوية مشاريع غير وطنية، من جهة أخرى.
وعلى هذا الأساس، أدرج الحريري زيارته التي على الرغم من أنّها لم تُعِده إلى يوميّات السياسة اللبنانيّة إلّا أنّها كرّست عودته الكاملة إلى اليوميّات الوطنية، تحت عنوان الاعتدال.
وإعادة الاعتبار إلى الاعتدال لا تحتاج فقط إلى جهد كبير بل إلى إمكانات كبيرة.
ولا يملك الحريري، في الظروف الراهنة، هذه الإمكانات، فهو بحاجة إلى دعم كامل من “محور الاعتدال”، على اعتبار أنّ التطرّف ليس يتيمًا بل يرعاه محور لديه إمكانيات ضخمة.
وقد بدا واضحًا أنّ تحديات إعادة الاعتبار إلى الاعتدال في لبنان كبيرة للغاية، فهي تبدأ بمواجهة – ولو من موقع ربط النزاع – مع “حزب الله”، وقد تجلّى ذلك في عنوانين واجههما الرئيس الحريري في زيارته للبنان: قتلة والده وسائر شخصيات 14 آذار (مارس)، والحرب المحتملة ضد لبنان انطلاقًا من التوتير المتصاعد على الجبهة اللبنانية.
وقد بدا الحريري الذي يظهر وكأنّه يتولّى مهمة إعادة الاعتبار إلى الاعتدال في لبنان وحيدًا، بحيث ترك أمر تنفيذ العدالة الأرضية إلى العدالة السماوية، بإشارته إلى أنّ مبدأ “بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين” يأخذ مفاعليه، إذ إنّ قتلة والده يُقتلون سواء في سوريا أو في غيرها، ولن توفّر العدالة السماويّة أيًّا من هؤلاء.
وهذا التسليم، وإن كان محمودًا دينيًّا ومعتمدًا من المؤمنين، إلّا أنّه يبيّن الضعف السياسي والخلل في ميزان القوى.
وقد تجلّى هذا الضعف أيضًا في موقف الحريري من موضوع التوتر الحربي على الجبهة اللبنانية – الإسرائيليّة، إذ إنّه تحدث من موقع المراقب لا من موقع الزعيم السياسي، فهو واضح في أنّه يرفض ما يحصل هناك، ويعتبر أنّه سيؤدي إلى حرب يريدها رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، ويعرب عن اعتقاده بأنّ حربًا كهذه ستضر بغزة، إذ المطلوب تركيز الاهتمام على ما يعانيه هذا القطاع وشعبه، في حين أنّ أي حرب على لبنان سوف تفقدهما هذا الاهتمام.
وعليه، فإنّ مهمة إعادة الاعتبار إلى الاعتدال في لبنان، على الرغم من أهميّتها، إلّا أنّ القيام بها يحتاج إلى توافق محور الاعتدال على أنّ سعد الحريري هو “رجلها”، وإذا حصل ذلك فلا بدّ من الإفصاح عنه، بطريقة لا تقبل أيّ نوع من الالتباس، على أن يلي هذا التبنّي والجهر به توفير ما يلزم من حضانة إقليميّة ومن استنفار سياسي داعم يواكب استنفارًا شعبيًّا أظهر التجمع حول ضريح الرئيس الشهيد في 14 شباط (فبراير) أنّ “خميرته” متوافرة!