بقلم: حسن إسميك- النهار العربي
الشرق اليوم– للكنيسة، بمختلف طوائفها، أسرار، وهي بحسب الليتورجيا الأرثوذكسية: «أفعالٌ مقدَّسةٌ تُقيمُها الكنيسةُ بقوَّةِ الرُّوحِ القدُسِ وتَمنحُ بها المؤمنينَ نعمةَ الرُّوحِ بعلاماتٍ محسوسةٍ لتقديسِهِم وجَعلِهم أبناءً حقيقيِّينَ للَّهِ بعبادةٍ فريدةٍ». عند الأرثوذكس والكاثوليك عدد هذه الأسرار سبعة، وهي: المعمودية، الميرون، الإفخارستيَّا (القربان المقدس)، التوبة، مسحة المرضى، الكهنوت، الزواج. كما تؤمن الكنيسة البروتستانتية ببعض هذه الأسرار مثل المعمودية والقربان المقدس، لكن تختلف في تفسيرها وطريقة ممارستها، فلا تعدُّها قنوات لنعمة الله، بل رموزاً تذكارية لتاريخ الخلاص.
وإذا قلنا إنَّ هناك خلافاً جوهرياً على بعض هذه الأسرار، فلن يخطر في البال أولاً “سر التوبة”، إذ لا تبدو التوبة أمراً جدلياً أو خلافياً بالعموم، فهي مفهوم عميق ومتجذر في كل الرسالات السماوية، وهي نعمة ومنَّة أعطاها الله للبشر، ليعيدوا التفكير بما ارتكبوه من معاصي وخطايا، ويعدلوا عنها ويندموا عليها، والله سبحانه وتعالى يغفر للتائب، لا بل ويفرح بعودته. هذا المبدأ الذي يبدو كمسلّمة بديهية، لم يكن كذلك بالنسبة للمسيحية، فقد أدى التنازع على “الكيفية” التي تتم بها التوبة، والمغفرة أيضاً، إلى انشقاق كبير في الكنيسة، وإلى نشوء الكنيسة البروتستانيتة التي – وإن كانت قد نشأت من رحم الكاثوليكية – إلا أنها ستنافسها لقرون طويلة، لا بل وستتحارب الكنيستان في معارك دامية أودت بحياة الملايين في أوروبا.
تأسيس سر التوبة
من المُسلّم به أن المسيح لم يترك تعليمات مكتوبة عن ممارسة الدين المسيحي، ويُرجَع ذلك لأسباب كثيرة، ربما يكون أبسطها وأوضحها أنه عاش وعلَّم في مرحلة زمنية لم تكن فيها الكتابة وسيلة شائعة لنشر التعاليم. حتى قصة حياته لم تدوّن في الأناجيل الأربعة حتى النصف الثاني من القرن الميلادي الأول. لقد نقل تلاميذه تعاليمه في البداية شفهياً، فاعتمد المسيحيون الأوائل على تعاليم التلاميذ، ومن بعدهم آباء الكنيسة، لفهم المسيحية، ما جعل تسلل الأخطاء البشرية أمراً ممكناً، ومثلُه ظهور تفسيرات مختلفة للدين، الأمر الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى نشوء مذاهب متعددة. وهذا ما حدث فعلاً في ما يتعلق بمارتن لوثر والتقليد الكاثوليكي.
بحسب التقليد المسيحي، فإن السيد المسيح هو من أسس لسرّ التوبة، وذلك بعد “قيامته”، حيث ظهر لتلاميذه وقال لهم: «خذوا الروح القدس، مَن غفرتم خطاياهم تغفر لهم ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسِكت» (يو21:20-23). ومن هنا أكد الآباء الرسوليون الأوائل على التوبة والاعتراف بتواضع وبقلب منسحق. وحثّوا متبعي الدين الجديد على الاعتراف بالخطايا، وطلبوا الغفران عن كل الذنوب والسقطات، كما ناشدوا الكهنة في كل التجمعات المسيحية الناشئة لقبول التائبين.
وعليه، ترى الكنيسة أن المسيح أعطى رسله، وخلفاءهم من بعدهم، بقوة الروح القدس، سلطة الحل والربط في موضوع الخطايا. ولم تتردد الكنيسة أبداً في ممارسة هذه السلطة.
في البداية، لم يكن هناك قانون ينظم سر التوبة، حيث كانت الممارسة روحية وجدانية شخصية وخاصة. ولم يتم “تنظيم” هذا السر إلا عبر تراكمات استمرت قروناً، ظهر واضحاً مع سيطرة الفكر المدرسي على الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى. والفكر المدرسي هو تيار فلسفي لاهوتي نشأ في أوروبا خلال العصور الوسطى، وسيطر على الفكر الكنسي لفترة طويلة. تميز هذا الفكر بمزج الفلسفة اليونانية، وبخاصة فلسفة أرسطو، مع العقيدة المسيحية. أشهر رواده توما الأكويني، وبونا فينتورا ووليم الأوكامي. وقد أسهم المدرسيون كثيراً في بلورة العقيدة المسيحية وتنظيمها إلى حدٍّ اتُّهموا فيه أنهم أهملوا الجانب الروحي للدين لحساب الجانب المنطقي والعقلاني. لقد “قونن” المدرسيون سر التوبة، فصار له طابع قانوني منظم يساوي – لا بل يطغى على – الطابع الروحي العلاجي التطهيري للسر. ووصل الأمر إلى فرض غرامات مالية على التائبين والمعترفين، في ما يمكن عدّه دليلاً على تراجع الجانب الروحاني للكنيسة في تلك الحقبة.
لقد لعبت الكنيسة دوراً مهماً – لا بل استفردت – في نقل ما اتُّفق على أنه تعاليم المسيح عبر الأجيال، لذلك، يعدّ ابتعاد مارتن لوثر عن خطها العام المسيطر منذ قرون حدثاً كبيراً، وتعدُّ وثيقته الشهيرة، رغم أن القصد الأساس منها هو الدعوة للمناقشة ضمن الكنيسة نفسها، ثورة حقيقية وخروجاً جذرياً عن العقيدة.
برأي لوثر: الكتاب المقدس هو المرجع الوحيد والفعال للإيمان والممارسة المسيحية، ويُعرف هذا المبدأ باسم “sola scriptura” أي “الكتاب المقدس وحده”، ويجب على جميع المسيحيين قراءة الكتاب المقدس وفهم محتواه بأنفسهم (لذلك عمد إلى ترجمته إلى الألمانية). ولا ينبغي لأي سلطة بشرية، مثل الكنيسة أو البابا، أن تكون لها سلطة على الكتاب المقدس أو تفسيراته. وعليه، فإن الخلاص وغفران الخطايا يكون من خلال الإيمان بالله فقط، فنعمة الله هي التي تخلص البشر، والله يمنحها للمؤمنين مجاناً، ولا تشترى لا بصكوك ولا بأية وسيلة أخرى. وقد عبّر عن ذلك من خلال اعتراضه في أطروحاته الـ 95 على بيع الكنيسة الكاثوليكية لصكوك الغفران، فالكنيسة برأيه تستبدل أملاً زائفاً (الغفران يمكن اكتسابه أو شراؤه) بالرجاء الحقيقي للإنجيل (الغفران من خلال غنى نعمة الله). إذن، تركز أطروحات وثيقة مارتن لوثر الـ 95 على ثلاث قضايا رئيسة، هي:
أولاً، مبدأ بيع الغفران (عن طريق الصكوك) فالله لا يغفر الخطايا مقابل المال، بل من خلال الإيمان والنعمة؛
ثانياً، سلطة البابا المزعومة على المطهر، والتي تمكنه من توزيع الغفران؛
ثالثاً، الضرر الذي تسببه صكوك الغفران للخاطئين أنفسهم، فهي تمنحهم شعوراً كاذباً بالغفران، وتمنعهم من التوبة الحقيقية.
ولتوضيح أفكار لوثر التي ضمنها في الأطروحات، لا بد من فهم مجموعة من العقائد المسيحية بعامة والكاثوليكية بخاصة.
سر التوبة والاعتراف الكاثوليكي
في معظم الأفلام الأجنبية، وبخاصة تلك الأميركية واللاتينية، كثيراً ما يظهر البطل في غرفة خشبية ضمن كنيسة، وهو يتلو ذنوبه وما اقترفه من خطايا، لكاهن يجلس على الجانب الآخر من حاجز شبكي. ما يقوم به البطل، هو ما يُعرف بسرّ التوبة والاعتراف في الكاثوليكية.
وفي حين لا ترتبط التوبة بالاعتراف (لدى الكاهن) في بعض الكنائس الأرثوذكسية، إلا أنهما في الكاثوليكية مرتبطان وكل منهما شرط للآخر، فشروط سرَّ التوبة عند هذه الكنيسة تتضمن: القصد، وفحص الضمير، والإقرار بالخطايا، وسماع الإرشاد من الكاهن، وأخيراً التكفير بصلوات أو بأعمال المحبة تعويضاً عن الأضرار الناجمة عن الخطيئة… أما عند البروتستانت، فالتوبة ليست سراً في الأصل، وهي أمر بين التائب وربه، فهو يقرُّ بالذنب ويطلب الصفح من الله، وطبقاً لوصايا الكتاب المقدس الله وحده هو غافر الذنب.
يبدو هذا الرأي واضحاً عند مارتن لوثر، لأنه يبدأ به أطروحاته الـ 95، حيث يشرح في بنودها الأربعة الأولى مفهومه للتوبة، وكيف يختلف عن “سر الاعتراف والتوبة” الذي تمارسه الكنيسة منذ قرون. يقول في البند الأول: “حيث إن ربنا ومعلمنا يسوع المسيح يقول: “توبوا” (متى 4: 17)، فقد أراد أن تكون حياة المؤمنين كلها حياة توبة”. ويتابع في البند الثاني: “لا ينبغي لأحد من الناس أن يفهم هذه الكلمة بمعنى سرّ التوبة الذي يجريه الإكليروس، أي بمعنى الاعتراف بالخطيئة والتكفير عنها”. فالتوبة الحقيقية برأي لوثر صراع داخلي، وقصاص ولوم ذاتي للنفس على ما ارتكبت، يستمر طيلة الحياة إلى أن يموت الإنسان ويدخل ملكوت السماوات، كما جاء في البندين التاليين، 3 و4.
ثم تنص الأطروحات من 5 إلى 7 على أن البابا الذي أطلق عليه لوثر اسم “نائب المسيح على الأرض” لا يمكنه تحرير الناس إلا من العقوبات التي فرضها بنفسه أو تلك التي أقرها القانون الكنسي. وحتى في طرحه هذا، يحاول لوثر أن يكون معتدلاً، وألّا يهاجم الكنيسة وأساقفتها، فيقول: “إذا قابل أحد الأشخاص صلاحية البابا بمنح المغفرة بالاستخفاف وعدم المبالاة، فلا شك، يبقى ذنب ذلك الشخص عالقاً به ولا يُمحى”. ويضيف في الأطروحة السابعة بأن الله “لا يغفر إثم أحدٍ أيّاً كان، إلاّ إذا جعله في الوقت ذاته يتواضع للكاهن ويخضع له خضوعاً تاماً، كون الكاهن نائباً عن الله، وقائماً مقامه”.
الموت، والعقاب الذي يليه
يُميّز اللاهوت الكاثوليكي بين نوعين من العقاب: العقاب الأبدي والعقاب الزمني. الأول عقاب للخطايا الجسيمة التي تُبعد الإنسان عن الله بشكل نهائي، ويمثله الجحيم الأبدي الذي لا يُمكن للإنسان الخلاص منه إلا عن طريق رحمة الله ومغفرته. أما الثاني فهو عقاب يلحق بمرتكبي الخطايا الّتي تُضرّ بالكنيسة أو بالآخرين، ويتمثل في “المطهر”، وفيه يُطهَّر المؤمنون من الخطايا venial (الخطايا الصغيرة) وآثار الخطايا المميتة التي تمّ غفرانها. وما زال هناك خلاف لاهوتي ضمن الكنيسة الكاثوليكية ذاتها، حول ما إذا كان هذا “المطهر” مكاناً فعلاً، أم أنه حالة مؤقتة فقط. يقول إلياس الجميل في كتابه اللاهوت النظري: “كثيراً ما يتفق أن يموت البعض مثقلين بخطايا عرضيَّة، وأن بعض الصالحين يموتون قبل أن يتمّموا وفاء ما يلزمهم من الكفارة عن العقاب الزمني المرتب على الخطيئة المميتة. فما الحكم على مثل هؤلاء؟ أأنهم يهلكون، ولكن هذا مُنافٍ للصواب؟! أم أنهم يفوزون بالغبطة السماوية وهم ملطخون بالدنس، وهذا أيضاً بعيد عن المعقول؟! أم أنهم بمجرد موتهم ينقون من كل إثم، وهذا ما لا دليل عليه؟! بقي إذن التسليم بأنه يوجد بعد الموت حالة غير ثابتة فيها تُطهَّر النفوس من كل دنس قبل دخولها فردوس الأبرار، وهذه الحالة هي المطهر”.
يعترض لوثر في الأطروحات من 8-13 على فكرة سلطة الكنيسة على الموتى، فبمجرد الموت، لا يعود لآباء الكنيسة أية سلطة على الإنسان، ويعترض كذلك على عدم منح الغفران الكنسي للمشرفين على الموت “وتأجيلها للمطهر”، ويرى في هذا التصرف جهلاً وشراً في آن معاً.
يتابع لوثر على امتداد 15 بنداً من أطروحته تحدي المعتقدات الشائعة حول المطهر، فشكّك بوجوده أساساً، معتمداً على الكتاب المقدس الذي لم يذكر صراحةً وجود مكانٍ كهذا. بالمقابل، أكد في الأطروحات 17-24 أنه لا يمكن قول أي شيء حاسم ونهائي عن الحالة الروحية للأشخاص في المطهر. كما يُنكر أي سلطة للبابا على الأشخاص في المطهر في الأطروحتين 25 و26.
ترن عملة معدنية في الصندوق… فتخرج الروح من المطهر!
هذه المقولة التي شاعت كثيراً في أوروبا، كانت موضوع الأطروحات كلها، لكن ركز لوثر عليها في البنود 27-29، حيث هاجم فيها فكرة قدرة أي شخص إخراج أرواح أحبته من المطهر إذا دفع مالاً للكنيسة، فما يحدث عندما ترنّ النقود في الصندوق ليس إلا زيادة “الطمع والجشع”.
من الأطروحة 30 إلى 34، ينتقد لوثر بشدة اليقين الزائف الذي يمنحه الدعاة للمسيحيين مشتري صكوك الغفران. ففي اعتقاده، لا يقدر إنسان أن يجزم إذا كان إنسان آخر تائباً حقاً، وبالتالي، فإن ضمان هؤلاء الدعاة للمغفرة أمر خطير.
يواصل لوثر هجومه في الأطروحتين 35 و36، معتبراً أن فكرة الغفران التي تجعل التوبة غير ضرورية فكرة “غير مسيحية”. فالتوبة الصادقة هي شرط أساس للاستفادة من أي تساهل أو غفران. والتائب الحقيقي ينال بطبيعة الحال الفائدة الوحيدة التي توفرها صكوك الغفران، وهي غفران العقاب وذنب الخطيئة.
نِعَمُ المسيح والكنيسة وبركاتهما مجانية، هذا ما تقوله الأطروحة 37، أما الأطروحة 38 فتُعيد – بشكل مستغرب – التأكيد على “قدرة مغفرة البابا وبركته”، ليرجع بعدها ليقول بأن صكوك الغفران تُعيق التوبة الحقيقية في الأطروحتين 39 و40. ففي حين أن التائب يرغب في عقاب الله على ما اقترف من الخطيئة، تُعلّم صكوك الغفران الإنسان تجنب العقاب، ما يُفقد التوبة معناها الحقيقي.
في الأطروحات 41-47، وفي خضمّ سجاله حول صكوك الغفران، ينتقد لوثر بشدة تأثيرها السلبي على ممارسة أعمال الرحمة. ويرى أن شراء هذه الصكوك يُثبط عزيمة المؤمنين على مساعدة الفقراء والمحتاجين، ويُحوّل تركيزهم عن جوهر الإيمان. ومن الأطروحة 42 يبدأ التأكيد على أهمية التعلّم، فيُردّد عبارته الشهيرة “يجب تعليم المسيحيين…” أن العطاء للفقراء أهم بكثير من شراء الغفرانات، وأنّ إهمال مساعدة المحتاجين لصالح شراء الغفرانات يُغضب الله، وأنّ الأعمال الصالحة هي التي تُحسّن من نفس الإنسان وتُقرّبه من الله، بينما لا يُقدم شراء الغفرانات أيّة فائدة روحية.
يُدافع لوثر عن البابا في الأطروحات 48-52، ويُؤكّد أنّه لو علم ما يُروّج باسمه من ممارسات خاطئة، لكان قد فضّل حرق كاتدرائية القديس بطرس بدلاً من بنائها بأموال الفقراء. ليعود في الأطروحات 53-55، إلى انتقاد من يعظون في الكنائس حول الغفرانات، بما يتجاوز في أحيان كثيرة ما يخصصونه من وقت للوعظ بالإنجيل المقدس، ويُؤكّد على أهمية نشر الوعي الديني الصحيح بين الناس.
خزينة الاستحقاق أو خزينة الكنيسة!
يُستخدم مصطلح “الاستحقاق” للتعبير عن القيمة الروحية للأعمال الصالحة والقدرة على جلب النعمة والخلاص، وخزينة الاستحقاق هي مفهوم لاهوتي كاثوليكي يشير إلى مجموعة من الاستحقاقات الروحية التي تأتي من أعمال المسيح، وتشمل أفعاله الصالحة و”ذبيحته على الصليب” التي تعدُّ ذات قيمة غير محدودة؛ ثم من استحقاقات المؤمنين والقديسين، والتي تشمل أعمالهم الصالحة، وصلواتهم، وتضحياتهم. وفي عام 1343 أصدر البابا كلمنت السادس مرسوماً يقضي بأن كل هذه الأعمال الصالحة كانت في خزانة الاستحقاق، التي كان البابا يسيطر عليها.
تفيد هذه الخزينة جماعة المسيحيين من خلال “شركة القديسين”، التي تعني وحدة وترابط المؤمنين، الأحياء والأموات. ويمكن للكنيسة توزيع ثواب الاستحقاقات من الخزينة على المؤمنين الذين يعانون في المطهر أو على الأحياء الذين هم بحاجة إلى مساعدة روحية.
أثار هذا المفهوم جدلاً كبيراً، في مراحل مختلفة من التاريخ، إذ رأى بعض اللاهوتيين أنّ هذا المفهوم يُشجع على التجارة الروحية ويُقلّل من أهمية الإيمان والنعمة. إلا أنه ما يزال جزءاً من عقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وما زال بإمكانك أن تقرأ في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الآتي:
1478- يتم الحصول على الغفران من خلال الكنيسة التي، بحكم سلطة الربط والحل التي منحها إياها المسيح يسوع، تتدخل لصالح الأفراد المسيحيين وتفتح لهم كنز استحقاقات المسيح والقديسين لينالوها من الآب. وبالتالي، فإن الكنيسة لا تريد مساعدة هؤلاء المسيحيين فحسب، بل تريد أيضاً أن تحفزهم على أعمال التقوى والتوبة والمحبة.
1479- بما أن المؤمنين الذين ماتوا الآن وقد تطهروا هم أيضاً أعضاء في نفس شركة القديسين، فإن إحدى الطرق التي يمكننا مساعدتهم بها هي الحصول على الغفرانات لهم، حتى تُغفر لهم العقوبات الزمنية المستحقة على خطاياهم.
لم يعد مفهوم الاستحقاق يُستخدم بالطريقة التي استُخدم بها في الماضي، ربما بسبب ما تعرض له من انتقاد من قبل مارتن لوثر الذي خصص له الأطروحات 56-66، وفيها يقول إن هذه العقيدة مُعقدة وغامضة، ولا يفهمها المسيحيون العاديون، ما يجعلهم عرضة للتضليل والاستغلال من قبل الكنيسة. ويُؤكّد على أن الكنز الحقيقي للكنيسة هو إنجيل يسوع المسيح، وليس خزانة الاستحقاق. فالإنجيل يُقدّم خلاصاً مجانياً للجميع، بينما تُباع صكوك الغفران مقابل المال. يستخدم لوثر لغة قوية واستعارات مُبتكرة لوصف الفرق بين كنوز الإنجيل، وكنوز صكوك الغفران، التي تشبه شباكاً لصيد ثروة الناس.
ثورة على الجشع
في الأطروحات من 67 إلى 80، يُشعل لوثر حرباً ضد الاستغلال الديني، مُدافعاً عن إيمانٍ نقيّ لا يُقايض بالمال، فيُسلط الضوء على ممارسات الوُعَّاظِ المُشينة، حين يروجون لغفران الخطايا باعتباره أعظم هبة من الكنيسة، بينما يُخفون وراء ذلك رغباتهم الجشعة. كما يُشير إلى تناقض صارخ حين يُطلب من الأساقفة السماح لمندوبي الغفرانات البابويّة بالدخول بكل احترام، مع العلم أن هؤلاء الأساقفة مسؤولون أيضاً – وأولاً – عن حماية شعبهم من تعاليم بائعي الغفران المُضللة.
يُهاجم لوثر بشدة الاعتقاد الخاطئ الذي يروّجه الدعاة، بأن صكوك الغفران تُغفر حتى لمن “انتهك حرمة” مريم العذراء. ويؤكد أن هذه الصكوك لا تمحو حتى أبسط الخطايا. كما يصف العديد من تصريحات دعاة الغفران بأنها تجديف، كادعائهم بأن القديس بطرس لم يُقدم غفراناً أعظم من الغفران المُقدم حالياً، وأن صليب الغفران المُزيّن بشعارات النبالة البابويّة، والذي يرفعه وعّاظ الغفرانات، يُضاهي صليب المسيح في قيمته.
في الأطروحات 81-91، يطرح لوثر على لسان رعاياه تساؤلاتٍ حائرة تُصيبُ لبّ الموضوع: إذا كان البابا فعلاً قادراً على إخراج النفوس من المطهر، فلماذا لا يُفرغه بدافع المحبّة؟ كيف يقبلُ العقلُ أن يُخلّصَ أشخاصٌ غيرُ أتقياء أرواحاً تقيّةً في المطهر بالمال؟ ويُضيف لوثر تساؤلاً آخر على لسان الفقراء: لماذا يطلبُ البابا، وهو غنيٌّ، أموالَهم لبناء كاتدرائيةٍ ضخمة؟ ويرى أنّ تجاهل هذه الأسئلة سيُعرّضُ البابا للسخرية والانتقاد، ولن يُساعد في نشر تعاليم الكنيسة.
وأخيراً، في البنود الأربعة الأخيرة، يُخاطب لوثر المسيحيين داعياً إيّاهم إلى اتّباع المسيح بسلوك طريقه، حتى لو تطلّبَ ذلك الألم والمعاناة. فالصبر على العذاب والسعي لدخول الجنة خيرٌ من الأمان الزائف الذي تُقدّمه صكوك الغفران.
ختاماً
قد يبدو لوثر في بعض أطروحاته مهادناً ومتريثاً ومتحفظاً، لكنه مع مرور الوقت وبعد السنوات التي تلت نشره الأولي للأطروحات، أصبح أكثر جرأة في طرحه، وعزز حججه بشواهد من الكتاب المقدس. لقد جاهر بوضوح ودون مواربة – مع تقدم فكره – أن عقيدة صكوك الغفران بأكملها غير صحيحة وغير كتابية.
بالمقابل، كانت تنازلات الكنيسة قليلة، وتدريجية، فلم تستجب لمطالبات لوثر، وغيره من المصلحين، إلا في تفاصيل محدودة؛ اعترفت الكنيسة بـ”التبرير بالإيمان”، لكن ليس الإيمان وحده مثلما نادى لوثر. كما نوقشت العلاقة المشحونة بين المال وصكوك الغفران. وفي حين أعاد مجمع ترينت (1563) التأكيد على دورها في الخلاص، فقد أدان “كل المكاسب الوضيعة لتأمين صكوك الغفران”. وبعد ذلك بأربعة أعوام، ألغى البابا بيوس الخامس بيعها، دون أن يلغي النظام واللاهوت الأساس الذي تقوم عليه بشكل كامل، والذي بقي قائماً أربعة قرون أخرى عندما جلس بولس السادس على الكرسي البابوي وقام بتعديل هذا النظام عام 1967، ليركز على جوهر الأعمال الصالحة وأهميتها، بعيداً عن دورها في الغفران أو تخفيف العقاب على الخطايا.
هذا كان جوهر ثورة لوثر على الكنيسة، وأهم الأفكار العقيدية التي طرحها، والتي من المفترض أن تكون نقاط الخلاف الرئيسة بين أتباعه لاحقاً وبين أتباع البابوية، لكننا مهما بحثنا عن هذا الجوهر في عديد الحروب التي عمت القارة الأوروبية لما يربو عن مئة عام بعد الثورة البروتستانتية، فلن نجده. بل ستكون السياسة والمصالح والأطماع والسعي إلى السلطة هي محور هذه الحروب، وإن حاول البعض إضفاء طابع ديني عليها، لتظهر وكأنها حروب مقدسة!
استعراض هذه الحروب، والبحث في أطرافها وأسبابها وساحات معاركها هو موضوع المقال المقبل.