بقلم: رامي الريس- الشرق الأوسط
الشرق اليوم– يعيش اللبنانيون تناقضاً هائلاً بين حالتين من الحرب المحدودة على الجبهة الجنوبيّة مقابل وضع شبه طبيعي في باقي الأراضي اللبنانيّة، وها هي القرى الحدوديّة اللبنانيّة تدفع الفاتورة الباهظة عن اللبنانيين جميعاً قتلاً ودماراً وتهجيراً، وكأن المشاهد القديمة التي كانت رائجة في حقبة ما قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975 – 1990) من حيث الانتهاكات الإسرائيليّة المتواصلة للجنوب اللبناني قد استُعيدت بشكل كبير، ووصلت إلى درجات متقدمة من الخطورة.
الفارق أنه بات بإمكان أحزاب لبنانيّة (وفي طليعتها «حزب الله» بطبيعة الحال) أن ترد على القصف الإسرائيلي، وأن تلحق الأذى بالمستوطنات الكثيرة المنتشرة في شمال الأراضي المحتلة إلى درجة تهجير أهلها بعد أن كانت في الماضي تنعم بالهدوء والاستقرار، وهي أراضٍ محتلة منذ حقبة نكبة 1948. وثمة ضغوطات كبيرة يمارسها هؤلاء السكان على رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو مطالبين بالعودة إلى «بيوتهم».
لا يمكن القبول باستمرار الاحتلال الإسرائيلي في استباحة الأراضي العربيّة أسوة باستباحته أراضي فلسطين منذ زمن النكبة وإقامة دولته فيها، وإسكان المستوطنين فيها بعد الإتيان بهم من كل أصقاع الأرض على حساب السكان الأصليين، خصوصاً أن مخططات إسرائيل الكبرى لم تسقط بعد من حسابات الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة، وهي تبحث عن فرص سياسيّة أو عسكريّة للنفاذ من خلالها لتحقيق هذا الهدف، وما طرح تهجير الفلسطينيين من غزة في بداية الحرب إلا أحد «تجليّات» هذا المشروع الخطير الذي يبقى قائماً ما دامت الحكومة الإسرائيليّة لم تتخلَّ عن مشاريعها التوسعيّة القديمة – الجديدة.
لبنان مدعو لمواصلة التمسك بالقرار 1701 الصادر عام 2006 عقب حرب تموّز التي استمرت 33 يوماً، وكانت مدمرة بكل معنى الكلمة، إلا أن تل أبيب فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة فيها أي القضاء على «حزب الله»، ولو أنها دمّرت الكثير في لبنان من جسور وبنى تحتيّة ومحطات كهرباء وسواها، تماماً كما فعلت في قطاع غزة. لقد أصبح القطاع برمته مدمراً تقريباً، وهدف القضاء على حركة «حماس» لم يتحقق ولن يتحقق رغم الدمار الهائل والإبادة الجماعيّة التي اتُهمت بها إسرائيل من قِبل أعلى مرجعيّة قضائيّة دوليّة؛ أي محكمة العدل الدوليّة.
في ظل الظروف الحالية، وبعد مرور أكثر من 3 أشهر على الحرب الإسرائيليّة على غزة، لعل الأفضل لبنانيّاً هو العودة إلى تطبيق القرار الدولي 1701 دونما تعديل، واستعادة «الستاتيكو» الذي كان قائماً في جنوب لبنان قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والذي أدّى غرضه في تحقيق الاستقرار والهدوء النسبي على مدى أعوام طويلة باستثناء الخروقات الإسرائيليّة التي قلّما توقفت منذ عقود للمجال الجوي والبري والبحري اللبناني.
إذا كان ثمّة «إجماع» لبناني على أن فتح حرب واسعة مع الاحتلال الإسرائيلي لا يتناسب مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة، ليس رفضاً للتضامن مع غزة والشعب الفلسطيني، بل لعدم قدرة لبنان على احتمال نتائجه الوخيمة؛ فالإجماع يفترض أن يسري أيضاً على رفض الاعتداءات والقصف الإسرائيلي الذي يطول لبنان، ووقفه لا يحصل من دون ضغط أميركي كبير على إسرائيل نجح حتى اللحظة في منع توسعة الحرب في الاتجاهات المختلفة وفي مقدمها من الجهة اللبنانيّة.
في هذه الأوقات الصعبة والدقيقة، يبدو المشهد اللبناني الداخلي البائس مفتوحاً على كل الاحتمالات، وربما في طليعتها إدامة حالة المراوحة والشلل التي تصيب البلاد منذ أكثر من سنة ونيف بعد دخوله في الشغور الرئاسي عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر 2022.
كان حرياً بالأطراف اللبنانيّة أن تضع خلافاتها جانباً، وأن تتفق على انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة اللبنانيّة يتمتّع بالمصداقيّة والاحترام، ويحظى بالدعم المحلي والخارجي المطلوب للنهوض بالبلاد، وإخراجها من أزماتها المتفاقمة والمتنامية على جميع الصعد. ليس هناك من ظروف قاهرة تحول دون انتخاب الرئيس، والكل يتحمّل قدراً من المسؤوليّة حيال ذلك، سواء الأطراف المتمسكة بمرشح دون سواه، أم الأطراف التي لم تطرح بديلاً جدياً مكتفية بـ«التقاطع» الذي حصل حول مرشح معيّن في مرحلة سابقة، وأغلب الظن أنه سقط وتجاوزه الزمن. وبين هؤلاء وأولئك، سيبقى الشغور الرئاسي مستداماً، وكذلك أزمات البلاد ومآزقها المتنوعة.