بقلم: عمّار الجندي- النهار العربي
الشرق اليوم– لطالما جادل مراقبون بأنّ الشأن المحلي هو الذي يملي نتائج الانتخابات العامة في بريطانيا. وكثيراً ما أفادت استطلاعات الرأي أنّ هناك فارقاً شاسعاً بين نسبة الناخبين المهتمين بقضايا خارجية وأولئك المعنيين بتوفير الرعاية الصحية والتعليم ومكافحة الجريمة… إلخ. ويقولون لكي يترك الحدث الخارجي صدىً في صناديق الاقتراع البريطانية، لا بدّ من أن يكون خطيراً، كغزو العراق و”طوفان الأقصى” وانحياز توني بلير التام لإسرائيل خلال عدوانها على لبنان في 2006.
لكن السنوات الثماني الأخيرة شهدت مقتل نائبين، عمالية ومحافظ، في جريمتين لمرتكب كل منهما دوافع تتصل بالخارج. ولقي 4 نواب آخرين، مصرعهم بين 1979 1990 على يد “الجيش الجمهوري الإيرلندي”. وفي بداية شباط (فبراير) الجاري، اضطر وزير الدولة مايك فريير الذي يُعتبر من عتاة المؤيدين لإسرائيل، إلى تقديم استقالته لأنّه لم يعد يحتمل التهديدات الكثيرة بالقتل. فماذا يعني هذا إن لم يكن مؤشراً إلى تأثّر المناخ السياسي في بريطانيا تأثراً قوياً بما يجري في دول أجنبية؟
وفريير، آخر ضحايا هذه العلاقة بالخارج، كان وزير دولة منذ 6 سنوات. عارض البريكست أولاً، ثم أيّده بإخلاص مع أنّه “زوجة” رجل أوروبي. غير أنّه لم يتردّد في دعمه لإسرائيل خلال السنوات الـ 14 التي قضاها نائباً. فقد صّوت دائماً لمصلحتها، ونشط عبر جماعة الضغط المسماة “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين”، حتى أنّه صُنّف في المرتبة الـ 99 بين الأشخاص المئة الأكثر تأثيراً في يهود بريطانيا.
تعرّض الوزير ومساعدوه لإهانات في مناسبات عدة، وهاجمه إسلاميون كما يزعم، لأنّه مثلي ومؤيّد لإسرائيل. ولم تبقَ التهديدات التي تلقّاها بالقتل كلاماً بكلام. فالصومالي الأصل علي حربي علي الذي اغتال زميله المحافظ ديفيد إيميس، حاول اصطياده هو أولاً في أيلول (سبتمبر)2021. كما أُحرق مكتبه في دائرته الانتخابية أخيراً. وردّ فريير هذه الحملة ضدّه إلى ما سمّاه العداء للسامية، مع أنّه ليس يهودياً، واستقال معلناً أنّه لن يترشح في الانتخابات التالية.
ولئن نجا الوزير السابق بقدرة قادر، فإنّ زميله إيميس، الذي كان نائباً منذ 1983 قد قُتل في 2021 على يد حربي علي، كنتيجة مباشرة لمواقفه حيال قضايا تتصل بشعوب أخرى. فحربي، زعم أنّه هاجمه دفاعاً عن المسلمين! أما السبب الذي جعله يختار أميس، فهو خيارات المغدور على صعيد السياسة الخارجية. فهو صوّت لصالح غزو العراق، ويُعتبر صديقاً صدوقاً لإسرائيل وعضواً فعّالاً في “أصدقاء إسرائيل في حزب المحافظين”. وارتكب المجرم أخطاءً فاحشة في تقييمه لأميس ولم يرَ صورته الكاملة. فمثلاً، كان المغدور واحداً من 30 نائباً محافظاً عارضوا قصف سوريا مع الأميركيين في 2013، ودأب على دعم اللاجئين وطلاب اللجوء.
وكان للإرهاب المحلي حصته من جرائم القتل السياسية. ففي 2016، سقطت جو كوكس، النائبة العمالية في وضح النهار بطعنات عنصري بريطاني دفعه تعصّبه القومي إلى معاداة المهاجرين الأجانب وجميع من يناصرهم. وكانت كوكس في طليعة المؤيّدين للمهاجرين والحق الفلسطيني، ونشطت من أجل رفع الحصار عن غزة وتبنّت لفترة قضية اللاجئين السوريين كما تحمّست لمجموعة “الخوذ البيض” السورية.
وعارضت النائبة اليسارية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وجعلها ذلك كله هدفاً لمتطرّف موتور كان قد شُحن في مناخ البريكست بالكثير من الأكاذيب عن المهاجرين وأنصارهم!
المعاناة من هذا النوع من الجرائم ليست حكراً على حزب بعينه، ولا يقتصر مرتكبوها على نمط محدد من الارهابيين. هكذا استقالت النائبة العمالية روزي كوبر قبل فريير بسنتين من مجلس العموم، لأنّ نازياً بريطانياً كان قد وضع اصبعه على الزناد ومضى يترصّدها. ونجا زميلها العمالي ستيفن تيمز من محاولة اغتيال قام بها شخص لا يختلف أيديولوجياً عن قاتل أميس.
والحق أنّ العنف بأشكاله المختلفة ضدّ أعضاء البرلمان البريطاني قديم. بيد أنّ وتيرته بدأت تتسارع واشتدت قسوته تدريجياً منذ نحو 20 عاماً. ومع رواج الوسائط الاجتماعية، أخذت أعداد متزايدة من النواب تشكو من سيل الاهانات والتهديدات التي تصلهم عبر الإنترنت، وهي تستهدف النساء والسود وذوي الأصول الآسيويين بنسبة أكبر بكثير من زملائهم.
ويعيش النواب غالباً في خوف دائم من التهديدات التي يتلقونها، ما يقيّد الديموقراطية، إن لم نقل يشلّها. فالذعر يحملهم على التهرّب من الخوض في قضايا مثيرة للجدل والتقليل من التعاطي مع الناخبين مباشرة، والرغبة في الاستقالة. قد تستطيع الحكومة أن توفّر الحماية الشخصية لأعضاء مجلس العموم (610 نواب) لو أنفقت ما يكفي على حمايتهم. لكنها لن تعالج بذلك جذر المشكلة التي تصيب الديموقراطية البريطانية في صميمها.
إنّ إخماد جذوة العنف يستدعي الغوص عميقاً في التربة البريطانية لنسف ركائزه العديدة، التي يأتي في مقدمتها النواب أصحاب الفضائح ممن يسيئون إلى سمعة الجسم البرلماني ويجعلونه هدفاً “مشروعاً” للبعض. وفعلت أيضاً تحوّلات وسائل الإعلام البريطانية في العقدين الأخيرين فعلها لجهة إذكاء موجة العنف السياسي. فبين وسائل الإعلام والإعلاميين من ضحّوا بالمعايير المهنية وحتى الأخلاقية، لدعم أجندات متطرّفة بطرق يغلب عليها التحريض والابتعاد عن الموضوعية! كما ساهم الإحباط الناجم عن تراجع الاقتصاد وارتفاع تكلفة المعيشة، وتعاظم التوتر السياسي ومعه الاستقطاب الذي عزّزه البريكست، في تأجيج هذا العنف.
وتنفخ سياسة بريطانيا الخارجية في ناره. إلاّ أنّ من الصعب تغيير أسلوب تعاطيها مع العالم، خصوصاً في مرحلة ما بعد البريكست، لأنّ المملكة المتحدة صارت أضعف مما مضى سياسياً واقتصادياً، ولا مناص لها من العمل بما يرضي الولايات المتحدة. من ناحية أخرى، كيف لبريطانيا أن تُصلح الماضي الذي بذرت فيها بذور الحاضر الدامي في مناطق عدة من العالم، والذي يخلق جيشاً من الأعداء لها ولديموقراطيتها؟
إنّ شراسة الهجمات ضدّ ركن أساسي من أركان الديموقراطية البريطانية تدلّ إلى مدى تبرّم البعض بنظامهم السياسي ومؤسساته. معروف أنّ ثمة خللاً في هذا النظام يدفع الكثيرين إلى الإحجام عن المشاركة في الانتخابات. أما أن ينتقلوا من المقاطعة إلى الهجوم على رموز الديموقراطية بعنف ودموية، فهذا أمر خطير لا سبيل إلى معالجته بالفرمانات.
بدلاً من الصراخ بدعوى الدفاع عن الديموقراطية، لعلّ من المجدي أكثر تقييمها، بحثاً عن الثغرات والأسباب التي تمنع المواطنين من قطف ثمارها، إن كانت مثمرة فعلاً، والدفاع عنها. أم ينبغي أن يرزح النواب تحت ضغوط تمنعهم من القيام بواجباتهم تجاه ناخبيهم، ويسقط المزيد منهم مضرجين بدمائهم وتُذبح الديموقراطية؟.