الرئيسية / مقالات رأي / ألمانيا ومصير الاتحاد الأوروبي

ألمانيا ومصير الاتحاد الأوروبي

بقلم: إميل أمين- العربية
الشرق اليوم– عرفتْ أوروبا أوقاتًا صعبة طوال النصف الأوّل من القرن العشرين، عانت فيها من مرارة حربَيْن عالميّتَيْن طاحنتَيْن، دفعت دولُها فيه أكلافًا عالية وغالية. ومع النصف الثاني من القرن العشرين، بدأت مرحلةٌ لاحقة من نسيان الماضي، والسعي للتعاون المشترك؛ فقد آمن الجميع هناك بأن الاقتصاد هو العاصم الوحيد من الدخول في أزمات مصيريّة جديدة.
نشأت الجماعة الأوروبية للفحم والصُّلب بمقتضى معاهدة باريس المُوقَّعة عام 1951، بين كلٍّ من فرنسا وألمانيا الغربية وبدأتْ تمارس عملَها ابتداء من عام 1952، ويمتد سريانُها لمدّة خمسين عامًا.
كانت هذه المعاهدة بمثابة حجر الزاوية الذي من حوله التأم شمل الأوروبيّين مرّة جديدة، ورويدًا رويدًا، بدأت فكرة الاتّحاد الأوروبي تمضي قُدُمًا، إلى أن اصبحت واقع حالٍ مُعاش، ليتأسّس بناء على اتفاقيّة معروفة باسم “معاهدة ماستريخت” الموقَّعة عام 1991.
سال الكثير من الحبر على الأوراق في شأن هذا النموذج الوحدوي الأوروبي، رغم اختلاف الأعراق والألسنة، وتنبَّأ بعضٌ من علماء السياسة الثقات حول العالم، بأن يضحي نموذج الاتّحاد الأوروبي، مثالاً يُحتذَى من قبل الدول التي يجمعها إقليم جغرافي واحد، لا سيّما بعد القوانين المنظمة للاتحاد والتي جعلت منه وحدة جغرافية وديموغرافيّة مُيسِّرة للحياة الهانئة والتبادل الإنسانويّ الخلّاق على جميع الأصعدة.
غير أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تسبَّبَ في اهتزاز عميق للأوروبيين، لا سيّما أن بريطانيا كانت تمثل نقطة ارتكاز عسكرية قوية، بل أقوى ما في الاتحاد على هذا الصعيد. ويومها تحدثت فرنسا وألمانيا بأن الاتحادَ قائمٌ وبقوة، وأن هناك رغبة عميقة في أن تظل دولُه متكاتفةً في مواجهة أنواء السياسة وعواصف العسكرة القريبة المتمثلة في روسيا من جهة، ناهيك عن شهوات قلب الصين الاقتصادية والمالية من جانب آخر.
هل الاتحاد الأوروبي في خطر، بعد أن بدأت بعض الأصوات تعلو في ألمانيا، مطالبةً بالانسحاب من الاتحاد، والعودة إلى سياقات الدولة المستقلة وبعيدًا عن سياقات الوحدة؟
ليس سرًّا أن ألمانيا لعبت أدوارًا متقدمة للغاية على الصعيد الاقتصادي في القارة الأوروبية طوال العقدَيْن الماضيَيْن، وقد قُدِّر لها بالفعل استنقاذ عدد من دول أوروبا، لا سيّما اليونان والبرتغال وإيطاليا وغيرهم، بما قَدَّمتْه لهم من قروض في أوقات الأزمات الماليّة التي ضربت العالم بعد الأزمة المالية العالمية 2008.
والشاهد أنه اذا كانت فرنسا هي قلب العالم الأوروبي سياسيًّا، فإن ألمانيا هي اللاعب الاقتصاديّ الأهمّ، وخروجها من الاتحاد الأوروبي، سيكون بدايةً لسقوط أحجار الدومينو الأوروبية والعودة من جديد إلى زمن الدول الأوربية المستقلة.
يَعِنُّ لنا التساؤل: ما السبب الذي يدفع البعض في ألمانيا إلى التفكير في الخروج من اتفاقية الاتحاد الأوروبي؟
تبدو هناك أسبابٌ متنوّعة، في مُقدِّمها ما هو اقتصادي، لكن حقيقة الحال تشير إلى تصاعد موجات القوميّات المتشدّدة والنعرات العِرْقية المتطرفة، وباتت هناك أصواتٌ تعاود العزف على أوتار “الجنس الآريّ”، تلك النغمة النازيّة العنصرية، بل إن أحزابًا بعينها، مثل حزب “البديل من أجل ألمانيا”، وحركات مثل “بغيدا”، لم تَعُد تداري أو تواري كراهيتَها للآخر المغاير مهما يكنْ اسمُه أو رسمُه أو جسمُه، بل بات هذا الآخرُ عُرضةً للكثير من الأذى الجسدي والمعنوي دفعةً واحدة بسبب كراهية العنصريّين له.
في الشهر الماضي رأينا المطالبات العالية بخروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي، بسبب الاحتجاجات الكثيفة التي بدأها المزارعون الأوربيون الذين يعانون من عدة مشاكل على الصعيد الاقتصادي إثرَ التعديلات القانونية التي أعلنت عنها معظمُ الحكومات الأوروبية، وتتضمن زيادةً في أسعار المنتجات المستوردة وتكاليف مرتفعة في زراعة المحاصيل.
في الثاني والعشرين من يناير/ كانون الثاني المنصرم، تمَّ طرح فكرة إجراء استفتاء على خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي حال وصوله إلى السلطة، وقد أشارت زعيم الحزب “أليس فايدل” في مقابلة مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” إلى أنه “إذا لم يكنْ الإصلاحُ ممكنًا، وإذا فشلنا في إعادة بناء سيادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فيجب أن نترك القرار للشعوب كما فعلت المملكة المتحدة”.
هل هو السيناريو البريطاني تجري به الأقدارُ داخل أوروبا مرّةً جديدة؟
قد لا يطول الانتظار، لا سِيَّما إذا حقَّقَ تيار اليمين الألماني المتشدّد بزعامة “البديل من أجل ألمانيا”، الوصول إلى الحكم في الانتخابات التشريعيّة المقبلة في 2025، والذي وضعته استطلاعات الرأي لعدة اشهر في المركز الثاني على المستوى الوطني (حوالي 22%) متقدِّمًا على الحزب الديمقراطيّ الاشتراكيّ الذي يتزعمه المستشار أولاف شولتز وبعد المحافظين مباشرةً.
من الأشياء المثيرة للتفكير، فكرة الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات الزاعقة، وترتفع الرايات الفاقعة، منذرةً ومحذرةً من أمرَيْن خطيرَيْن على شعوب قارة التنوير وحقوق الإنسان، قارة الليبرالية والديمقراطية، في عيون أصحابها، وإن أفل ضوؤها في الأعوام الأخيرة.
الأمر الأوّل هو الخوف المتنامي، والذي بات حقيقةً بعد قيام بوتين بعملية عسكريّة واسعة النطاق في أوكرانيا، ما دعا أبواقٌ واسعة وصادحة بالتحذير من شهيّة القيصر المفتوحة على دول أخرى جارة وأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ما يجعل من الوارد جدًّا أن يُكرَّر ما جرى لكييف، الأمر الذي يتطلَّبُ المزيد من الوحدة وليس الانسحاب على هذا النحو من قلب الاتحاد.
الأمر الثاني له علاقة جذرية برغبات الصين في التمدُّد والتوسُّع، وحتى لو كانت سُمْعتُها قد تضرَّرَت كثيرًا بعد انتقال فيروس كوفيد-19 من داخلها إلى خارجها، فإنّها لا تزال راغبة في مشاغبة الكثير من دول أوروبا لا سيّما المتراجعة اقتصاديًّا، والقيام بما يشبه الغزو الاقتصاديّ، وما طريق الحرير الجديد إلا شكلٌ من أشكال هذا التفكير.
انسحاب ألمانيا من الاتحاد الأوروبي، سيوجِّه في المقام الأوّل ضربةً كبيرة لميزانية الاتحاد؛ حيث تمثل ألمانيا خُمْسَ استثماراته. ولمزيد من التوضيح، فإن الحجم المقدَّر لميزانية الاتحاد الأوروبي لعام 2024 هو 143 مليار يورو، منها 137 مليارا من الاستثمارات المباشرة للدول الأعضاء في الاتحاد وتستثمر ألمانيا أكثر من 30.3 مليار يورو، وهو ما يمثل 21.2% من إجمالي ميزانيّة الاتحاد، وفقًا للبيانات الإحصائيّة الأوروبية.
هل ستنتصر أصواتُ المُتشدِّدين الألمان المنادية بالخروج، أم أنّ المظاهرات التي عَمَّتْ كثيرًا من المدن الألمانية في الأسبوع الأوّل من شهر فبراير/شباط الجاري، والرافضة لتصرُّفات وتطرُّفات اليمين الألماني الشعبويّ، ستنتصر وتغلق الأبواب في وجه فكرة الخروج.
يُقِرُّ المستشار الألماني أولاف شولتس بأن مغادرة الاتحاد تعني تهديد الحياة الاقتصادية لألمانيا وضياع غالبيّة ثروتها، سِيَّما أنها تحمَّلتْ عبئًا كبيرًا في حرب أوكرانيا.
باتت الكرة في ملعب الشعب الألماني، وجوابه على تساؤل “ديكسيت”، ربما سيُحدِّد بوصلة أوروبا في قادم الأيّام.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …