بقلم: د.ناصر زيدان – النهار العربي
الشرق اليوم- يستعجل بعض الكتَّاب أو السياسيين إعلان وفاة فكرة “القومية العربية”، ويعتبرون أن موضوع الوحدة العربية شعارٌ استخدمته الأنظمة الكُلِّية في وقتٍ مضى لتثبيت دعائم الحكم، وحصرية هذا الحكم في شخصية القائد، متجاهلين أحياناً كون “الفكرة” سبقت هؤلاء جميعاً، والقومية العربية مقاربة حضارية لها مكانتها بين كبريات أُمم الأرض، وهي ثابتة عايشت متغيرات هائلة عبر التاريخ، اندثرت معها إمبراطوريات وقامت أُخرى، لكن العربية بقيت كحالة تربط بين شعوب مترامية على جغرافيا واسعة، رغم أنها انكشفت من دون غطاء لأوقات طويلة، ولم تلاقِ مَن يُدافع عنها.
بعض الذين يتحدثون عن استحالة الوحدة العربية لديهم اعتبارات فكرية يمكن قراءتها (مثل مقالة د. حسن إسميك في “النهار العربي” 24/1/2024 تحت عنوان: العرب أكثر عدداً من أن يتحدوا.. وأشدّ اختلافاً من أن يتفقوا) وبعضهم لديه أجندة واضحة تخفي ارتباطات غريبة عجيبة، إذا لم نقُل أنهم يعملون لمصالح دول غير عربية. وبعض ما يُساق في المقاربات التي تُعلن فشل الفكرة العربية يستند إلى مشكلات سياسية وعقائدية، أو إلى أحداث دامية حصلت على خلفية استبداد شخصي، أو لتثبيت الاستفراد غير المُبرر في السيطرة على السلطة، أو إلى تمايُز جهوي – بين المغرب والمشرق على سبيل المثال – بينما التباينات في هذا السياق الأخير موجودة عند أمم الأرض قاطبةً، وآخرها ما يحدث بين الإدارة المركزية الأميركية والسلطات المحلية لولاية تكساس التي مرَّ على اندماجها في الاتحاد الفدرالي ما يقارب 250 سنة.
قد لا يتفق العرب على موقف موحد، وقد لا يتحدون في كيانٍ سياسيٍ واحد، بسبب كثرة عددهم، أو بسبب اتساع الجغرافيا التي يعيشون عليها، أو لأي سببٍ آخر، لكن العرب كانوا – ويبدو أنها باقون – حالة عالمية لعبت أدواراً مهمة، مباشرة، أو غير مباشرة إبان مرحلة استتباعهم لإمبراطوريات كبرى – رومانية وبيزنطية وعثمانية وفرنسية وبريطانية – وقد تكون أهمية العرب من النواحي المُتعددة هي التي دفعت هذه الإمبراطوريات – متنافرة أو مُتفقة – على استعمارهم، خوفاً منهم، لأن الوضعية العربية المُتحدة غيَّرت كثيراً في تاريخ العالم على امتداد حقبة طويلة من الزمن، لا سيما في أوروبا بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر بعد الميلاد.
اللورد روتشيلد (أبو فكرة إنشاء إسرائيل) قال أمام وزير خارجية بريطانيا السير بالمرستون في آذار (مارس) 1840: “إن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وأفريقيا وبين المشرق العربي وآسيا، والحل الوحيد هو زرع قوة فيها تفصل بينهم وتمنع الخطر العربي بالمستقبل” (راجع إيمان الشويخ، “النهار العربي” 23/1/2024).
أما الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور، فقد قال عند فوزه بالرئاسة عام 1953، وإبان العدوان على مصر في معركة تحرير قناة السويس، إن أولوية سياسته في محاربة الشيوعية ووقف انتشارها تأتي بالدرجة الثانية، أما الأولوية الأساسية فهي في الحؤول دون وحدة العرب وتمكينهم من إنتاج اعتماد خيار سياسي واحد، لأن ذلك سيهدد التوازنات في العالم، لأن العرب قادرون على تعزيز مونتهم في أفريقيا وفي وسط آسيا إذا كانوا أقوياء، وعندها سيختلّ التوازن الدولي لمصلحة من يقف معه العرب. وتابع: “العرب يكرهون الغرب بسبب ما خلفه الاستعمار، لذلك علينا العمل لعدم وصولهم إلى وحدة الموقف والحذر منهم على الدوام” (يمكن مراجعة محاضرة البروفسير الأميركي روي كاساغراندا في فورن بوليسي، وهي نُشرت على يوتيوب بتاريخ 23/8/2014).
في الواقع العربي اليوم يمكن تبرير أي من الاتهامات المُساقة بحق الشعارات الوحدوية، ذلك أن منسوب التأثير العربي على مفاصل الأحداث في العالم، وفي المنطقة على وجه الخصوص، تراجع إلى مستويات قد تكون غير مسبوقة. حتى إبان حكم السلطة العثمانية كان التأثير المصري والخليجي يُحسب له حساب. لكن كل ذلك لا يبرر “الكفر” بالفكرة القومية على إطلاقها، وما ساقته مقالة د. إسميك بحق الأنظمة العسكرية العربية، له ما يبرره، ولكن هذا الانتقاد تَغلُب عليه الروح الانتقامية، كي لا نقول إنه يحمل عدائية للفكر القومي. والمطالبة باعتماد نُظُم أكثر وطنية، تتعامل مع المعطيات الواقعية الراهنة؛ لا يلغي بأي شكل من الأشكال فكرة التضامن العربي، أو آلية الوحدة بطُرق مختلفة عن الأساليب التي اعتُمدت سابقاً، ولا بأس أن يتم تطوير الجامعة العربية، أو إنتاج مقاربة جديدة تخدم المصالح المشتركة، لأن كل ذلك أخفُّ وطأةً من رجم الفكرة العربية، وهي ثروة لم تُجمع بالسهولة التي يراها البعض، والتنازل عنها، هو بمثابة عن “تسميات مثل: الخليج العربي أو بحر العرب، أو البلاد العربية” كما يطلق عليهم في كل بقاع الأرض، وهذه التسميات لم تحمل عناوين قطرية أو جهوية أو وطنية، بل عناوين عربية، وهو ما لا يمكن اعتباره مصادفة على الإطلاق.
إن توصيف الشعار كونه يعبر عن عاطفة أو حنين للفكرة القومية، أو واجب أيديولوجي على كل مثقف عربي بعد مرحلة الاستقلال في النصف الثاني من القرن الماضي؛ خطأٌ جسيم، ذلك أن ربط القومية العربية بأنظمة دول عربية محددة لا يستقيم على الإطلاق، وهو اعتداء على الثقافة العربية وعلى اللغة وعلى التراكمات الحضارية المختلفة. ولا يخفف من حجم هذا الاعتداء الفشل الكبير الذي عاشته التجارب العربية في الحقبات الماضية، لأن الوقائع المؤلمة التي حصلت في التاريخ المعاصر ببعض الدول العربية، أخف وطأة من الحاضر المُبكي. ومَن يسوِّق لعدم إمكان الاتفاق بين العرب بسبب كثرة العدد، مخطئ، لأن هناك أمماً وشعوباً موحدة وعددها أكثر من العرب، أما مقولة إن شدَّة الاختلافات بين العرب تمنع إمكان اتفاقهم؛ ففيها شيءٌ من النظرة الشمولية، لأن الاتفاق لا يعني إلغاء الخصوصية الوطنية لكل دولة عربية، ولا يعني وحدة قرار على الطريقة العسكرية، والتنوع في هذه الحالة غنى، ومشاكلهُ أخف وطأة من دفع بعض الدول العربية إلى استدعاء حمايات أجنبية.
إن تحكيم العقل والمنطق في مقاربة الفكر القومي العربي ضرورة لا يتنكر لها العارفون، ولكن تجاهل كون الأمن القومي العربي بحدهِ الأدنى ضرورة أيضاً؛ تجاهل فيه بعض التهوُّر، ومن دون هذا الأمن بحده الأدنى؛ لا يمكن ضمان حماية وثبة التنمية الخليجية الهامة، ولا توفير شيء من التماسك في المغرب العربي بصرف النظر عن المشكلات القائمة ونتائجها الوخيمة في ليبيا وفي الصحراء وفي السودان.
لم تبدأ الفكرة القومية العربية منذ مطلع القرن العشرين، وليست هي مستوردة من العقائد القومية الأوروبية، والدعوات التي وُجِهت للوحدة العربية لم تكُن رداً على الاحتلال العثماني رغم تأثير هذه العوامل على اندفاعة الفكر القومي. فالفكرة ثابتة تاريخية وحضارية وثقافية ولغوية لا يمكن إنكارها، بينما تمكن المطالبة بعصرنتها، أو بتطويرها، وابتكار الأُطر التي تتناسب مع المصالح العليا للشعوب العربية وللذين عاشوا في كنفها من دون نفورٍ أو إكراه لفترة طويلة من الزمن.
البديل من الحد الأدنى من الاتفاق العربي، أو وحدة الموقف في القضايا الاستراتيجية الكبرى؛ هو دفع المجموعات العربية المتنوعة إلى أحضان القوى الدولية أو الإقليمية الكبرى، وهؤلاء لديهم الخبرة في فكفكة خيوط النسيج العربي، أكثر من خبرتهم في حمايته أو الحفاظ عليه.
لا يمكن في هذه العجالة تناول كل حيثيات الموضوع الواسع والمتشعِّب، لكن لا بد من القول إن الوحدة العربية بمفهوم الأنظمة الشمولية قد تكون فكرة غير واقعية، لكن واقعة التعاون العربي في إطار الجامعة العربية، أو من خلال صيغة أكثر تطوراً؛ فيه مصلحة للشعوب العربية، وهو أضعف الإيمان.