بقلم: محمد صلاح – صحيفة النهار العربي
الشرق اليوم- طبيعي أن تتوقف كل خطط التطبيع ومشاريعه بين دول عربية وإسرائيل على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن تجد صعوبات حتى بعد انتهاء الحرب التي ستترك بكل تأكيد آثاراً مدمرة وذكريات مؤلمة، وسترسخ قناعات بأن السلام مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها لا يكفيان العرب لاتقاء شرها أو نزع الأفكار الكامنة والمخططات المخفية للتوسع وارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين أو غيرهم لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.
وعلى مدى عقود ظلت العلاقات المصرية الإسرائيلية على المحك تتأزم وتتأثر، رسمياً، وفقاً لتطورات القضية الفلسطينية والاندفاع الإسرائيلي المحموم للتنكيل بالفلسطينيين، لكنها على المستوى الشعبي ظلت محدودة أو هامشية أو قل نادرة. ورغم حرص الطرفين، مصر وإسرائيل، على الحفاظ على قواعد عدم الاشتباك حتى عند وقوع حوادث حدودية واللجوء إلى تطبيق البند الرابع من اتفاق السلام والخاص بمعالجة مثل تلك الحوادث بواسطة لجنة عسكرية مشتركة، إلا أن الحرب على غزة أعادت إلى الواجهة قضية مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية، خصوصاً أن الأكاذيب الإسرائيلية بشأن محور فيلادلفيا لا تتوقف، ولا يبدو أنها ستنتهي قبل نهاية العدوان على قطاع غزة، فإذاعة الجيش الإسرائيلي ادّعت أخيراً أن إسرائيل ومصرَ “تَقتربان من التوصل إلى اتفاق بشأن قضيتيْ رفح ومحور فيلادلفيا”، وأن إسرائيل التزمت عدم القيام بعمل عسكري في رفح، قبل إجلاء نحو مليونِ نازح من المدنيين نحو داخل غزة، زاعمة أن التفاهمات مع الجانب المصري تشير إلى دور إسرائيلي على طول “محور فيلادلفيا” من دون وجود مادي للقوات.
اللافت أن التسويق الإعلامي للمزاعم حول المحور لم يتوقف عند الإذاعة العبرية أو حتى وسائل إعلام إسرائيلية أخرى، بل شمل أيضاً مسؤولين إسرائيليين، إذ تزامن مع تأكيد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن الجيش الإسرائيلي “سيتوجه إلى مدينة رفح على الحدود مع مصر” من دون أن يشير إلى أن مصر عارضت وجوداً إسرائيلياً على طول الشريط الحدودي، أي داخل المحور.
صحيح أن وسائل إعلام مصرية نقلت عن مصدر رسمي مصري نفياً قاطعاً “لأي ترتيبات أمنية جديدة بشأن محور صلاح الدين فيلادلفيا” مؤكداً عدم صحة المعلومات عما تم تداوله حول اقتراب التوصل مع إسرائيل إلى اتفاق حول رفح والمحور أو وضع أي وسائل تكنولوجية جديدة هناك، إلا أن المعروف أن الأمر يخضع للبند الرابع في اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل الذي ينص على أن أي ترتيبات أو تطورات عسكرية على الحدود تحال إلى ملحق أمني تضمّن تشكيل لجنة عسكرية مشتركة، وعلى الجانب الإسرائيلي، ووفقاً للملحق، يجب أن توافق مصر على أي نشاط عسكري في المنطقة (د) التي يقع “فيلادلفيا” ضمنها والممتدة من البحر المتوسط شمالاً وحتى معبر كرم أبو سالم جنوباً.
وإضافة إلى الموقف المصري المعارض للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ترفض مصر السماح بدخول قوات إسرائيلية إلى محور “فيلادلفيا” حتى لا تعد الموافقة على الطلب الإسرائيلي قبولاً مصرياً باحتلال غزة من قبل القوات الإسرائيلية.
ورغم كثافة الدعاية المضادة ضد الحكم في مصر، والتي تعتمد فيها إسرائيل كثيراً على مزاعم الآلة الإعلامية لتنظيم الإخوان المسلمين وادعاءاته وأكاذيبه التي لا تتوقف، سعياً إلى تحريض الناس ضد حكم الرئيس السيسي ومحاولة الإساءة للجيش المصري وترسيخ الاعتقاد بوجود تواطؤ مصري ضد الفلسطينيين، ينتبه المصريون إلى التعاون غير المعلن بين ذلك التنظيم الإرهابي والدولة العبرية لتوريط الجيش المصري الذي تعرض منذ 25 كانون الثاني (يناير) 2011 وما زال لاختبارات صعبة، ومر بمحكات ومواقف ومعضلات عصفت بجيوش في دول أخرى حول مصر، وواجه أعاصير الربيع العربي وأمواج محاولات خارجية لإسقاطه أو تقسيمه أو تفتيته أو تشتيته، لكنه ظل متماسكاً قوياً، ثابتاً في مواقفه رغم أحداث جعلت جيوشاً في دول أخرى تفر أمام مؤامرات قوى تحالفت مع التكفيريين، محافظاً على ردائه وسط أحداث جعلت عسكريين في دول أخرى يخلعون رداءهم خوفاً من الانتقام!!
وفي البحث عن الموقف المصري من موضوع محور “فيلادلفيا”، كان لافتاً ذلك البيان المطول لهيئة الاستعلامات المصرية والذي أظهر حجم الخلافات المصرية الإسرائيلية، إلى درجة جعلت القاهرة تؤكد أن “أي ادعاء بأن عمليات التهريب تتم عبر الشاحنات التي تحمل المساعدات والبضائع إلى قطاع غزة من الجانب المصري لمعبر رفح، هو لغو فارغ ومثير للسخرية” استناداً إلى أن أي شاحنة تدخل قطاع غزة من هذا المعبر، يجب أولاً أن تمر على معبر كرم أبو سالم، التابع للسلطات الإسرائيلية، والتي تقوم بتفتيش كل الشاحنات التي تدخل إلى القطاع. كذلك، فإن من يتسلم هذه المساعدات هو الهلال الأحمر الفلسطيني والمنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة كالأونروا، وهو ما يضيف دليلاً آخر إلى كذب المزاعم الإسرائيلية، وترى مصر، وفقاً للبيان، أن الجوهر الحقيقي لادعاءات إسرائيل “هو تبرير استمرارها في عملية العقاب الجماعي والقتل والتجويع لأكثر من مليوني فلسطيني داخل القطاع، وهو ما مارسته طوال 17 عاماً”.
والمؤكد أن إمعان إسرائيل في تسويق هذه الأكاذيب هو محاولة منها لخلق شرعية لسعيها لاحتلال ممر “فيلادلفيا” أو ممر صلاح الدين، في قطاع غزة على طول الحدود مع مصر، بالمخالفة للاتفاقيات والبروتوكولات الأمنية الموقعة بينها وبين مصر التي ترى أن أي تحرك إسرائيلي في هذا الاتجاه، سيؤدي إلى تهديد خطير وجدي للعلاقات المصرية – الإسرائيلية، إذ أشار البيان إلى أن مصر “فضلاً عن أنها دولة تحترم التزاماتها الدولية، فهي قادرة على الدفاع عن مصالحها والسيادة على أرضها وحدودها، ولن ترهنها في أيدي مجموعة من القادة الإسرائيليين المتطرفين ممن يسعون لجر المنطقة إلى حالة من الصراع وعدم الاستقرار”.
ويضاف الموقف المصري إلى مواقف أخرى معارضة للتوجهات الإسرائيلية، وبينها الرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين قسراً أو طوعاً إلى سيناء، علماً بأن السلطات المصرية كانت قد بادرت بالاتفاق مع إسرائيل عامي 2005 و2021، إلى زيادة حجم قوات حرس الحدود وإمكاناتها في هذه المنطقة الحدودية من أجل تأمين الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي، واحتراماً لمعاهدة السلام مع إسرائيل، وحتى لا تتخذ الأخيرة من جانبها أي خطوة انفرادية.
أكثر ما يعكس هامشية التطبيع بين الطرفين علاقات التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب، والتي تباينت من وقت إلى آخر بحسب الظروف، وتأثرت بحسب التطورات والتغييرات السياسية في المنطقة، وذلك منذ اتفاقية السلام عام 1979. فحجم التجارة وقتها بين مصر وإسرائيل تراوح بين 40 إلى 50 مليون دولار في العام، بما لا يساوي مجرد صفقة تبرمها مصر مع أي دولة أخرى. صحيح أن اتفاقيات أوسلو أدت إلى ارتفاع نسبي في حجم التبادل التجاري بين البلدين، إذ إنه حتى عام 2000 بلغ حجم التبادل بينهما 100 مليون دولار في العام، لكن منذ عام 2002 وحتى 2004، شهد التبادل التجاري انخفاضاً كبيراً بسبب النشاط المعارض للتطبيع داخل مصر استغلالاً لسنوات الانتفاضة، فضلاً عن قيام السلطات المصرية بكشف قضايا تجسس لمصلحة إسرائيل وأشهرها قضية الجاسوس “عزام عزام”، وانخفض حجم التجارة بين تل أبيب والقاهرة بعدها إلى 30 مليوناً فقط كل عام، وبعد إبرام اتفاقية “الكويز”، التي تمت برعاية أميركية، في نهاية عام 2004 زاد حجم التبادل التجاري بين البلدين حتى عام 2008 حين بدأ تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، ما جعل حجم الاستيراد الإسرائيلي من مصر يرتفع إلى 270 مليون دولار، في الوقت الذي كانت مصر فيه تستورد من إسرائيل بنحو 134 مليون دولار. في عام 2010 أصبح حجم التبادل التجاري نصف مليار دولار في العام، مع تصدير مصري إلى إسرائيل بمبلغ 355 مليون دولار، ورغم اتفاقية الغاز بين تل أبيب والقاهرة، إلا أن الحكومة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك لم تشجع رجال الأعمال على التعامل مع الشركات الإسرائيلية. كما أن العديد من النقابات المهنية في مصر حظرت على أعضائها التطبيع مع إسرائيل، وبسبب الاضطرابات في مصر عام 2011، قل حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل إلى 18%، في مقابل عام 2010، إذ قل من نصف مليون دولار سنوياً، إلى 415 مليوناً، وفي عهد الرئيس الإخوانجي محمد مرسي بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل 200 مليون دولار، منها 120 مليون دولار تصدير منتجات إسرائيلية إلى لقاهرة، وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يحدث انفراج في التبادل التجاري بين الطرفين حتى وصل أخيراً إلى أدنى درجة، وجعل التطبيع يترنح.
عموماً يبدو الغضب المصري من سلوك حكومة نتنياهو المتطرفة كبيراً لأسباب عدة معروفة، لكنه وصل إلى مداه بسبب التسريبات والتصريحات التي تتضمن ادعاءات ومزاعم بتورط مصر في تهريب الأسلحة إلى “حماس”، وتشير الأوساط الرسمية المصرية إلى الكميات الكبيرة من الأسلحة والذخائر والمتفجرات المنتشرة في مختلف مناطق الضفة الغربية، بحسب البيانات الإسرائيلية، في ظل السيطرة الكاملة لجيش الاحتلال عليها، من دون أن يكون للضفة حدود مع مصر، ما يرجح صحة المعلومات عن تورط عناصر من الجيش الإسرائيلي في تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة بهدف التربح.
الدعم الشعبي المصري للقضية الفلسطينية أمر مؤكد وواقعي من دون أدنى شك، ويتماشى مع الموقف الرسمي لمصر في دعم حقوق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الـ4 من حزيران (يونيو) 1967. لكن هذا لا يتعارض مع حرص السلطات المصرية على تأمين الحدود مع غزة ومنع التهريب منها وإليها، عبر إجراءات وجهود استمرت لسنوات، ما جعل تنظيم الإخوان والقوى والجهات المتحالفة معه تسعى إلى ترويج مزاعم عن أن تلك الإجراءات هدفها حصار الفلسطينيين ومنع مرورهم إلى سيناء.