بقلم: فارس خشان- النهار العربي
الشرق اليوم– في ذاكرة السفير اللبناني السابق جوني عبده أنّ المبعوث الأميركي فيليب حبيب، فور عودته من واحدة من زيارته لدمشق، في إطار مساعيه المكوكية في عام 1982، لإيجاد حل للاجتياج الإسرائيلي للبنان، أبلغه أنّ الرئيس السوري حافظ الأسد قال له إنّ الفرق بين سوريا والولايات المتحدة الأميركية، أنّه إذا عادت مئة جثة إلى دمشق، فإنّ النظام السوري يصبح أكثر قوّة، في حين أنّ الإدارة الأميركيّة تخشى الانهيار، إذا عادت جثة واحدة الى واشنطن!
وتذكّر عبده الذي كان في حينه مديرًا للمخابرات في الجيش اللبناني أنّه تحدث وحبيب عن وضع الولايات المتحدة الأميركية، بعد الانسحاب من فيتنام. حينها، يقول جوني عبده، رفعت واشنطن شعار “لا فيتنام بعد اليوم”، ولكنّها، بعد سنتين من ذلك اضطرت إلى تعديل هذا الشعار، ليصبح كالآتي: بعد اليوم لا لـ”لا فيتنام بعد اليوم”.
وفق عبده، فإنّ الإدارة الأميركيّة كانت قد اكتشفت أنّ قوتها في العالم سوف تتآكل، إذا ما بقيت أسيرة عقدة الخسائر البشريّة التي اضطرتها إلى مغادرة فيتنام، لأنّه، والحالة هذه، سيضربها أعداؤها وخصومها ومنافسوها، في نقطة ضعفها، ويتسببون بشللها وانعزالها!
هاتان الحادثتان اللتان يتذكرهما جوني عبده، قد تصلحان ليس لإلقاء نظرة على تآكل التفوّق الأميركي في العالم فحسب، بل أيضًا لفهم انطباع يجتاح كثيرين عن هزيمة محتملة قد تلحق بالولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط أمام الجمهورية الإسلاميّة في إيران و”جبهة المقاومة” التي بدأت طهران تشكيلها في بداية الثمانينات من القرن الماضي.
وتظهر الإدارة الأميركيّة، منذ سنوات عدة، “قليلة الحيلة” في الشرق الأوسط، ولكنّها في الأيّام التي أعقبت استهداف موقعها العسكري على الحدود الأردنية – السوريّة حيث سقط لها ثلاثة قتلى وأكثر من أربعين جريحًا، تبدو “تائهة” بين الخطوط الحمر التي سبق أن وضعتها للآخرين والخطوط الحمر التي تضعها لنفسها، في حين أنّ إيران والتنظيمات الموالية لها تبدو، على الرغم من اعترافها الميداني بضعفها أمام القوة الأميركية، في وضعية المناورة الهادفة إلى استيعاب نتائج ما تقوم به وانتظار التوقيت الأنسب لتصعيد المواجهة، مجددًا.
وفي وقت لا تكف الإدارة الأميركية عن ربط التنظيمات في لبنان واليمن والعراق وسوريا بإيران، وتوجه اتهامات إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأنّها تزوّد هذه التنظيمات بالصواريخ التي تستهدف قواعدها والملاحة البحريّة في البحر الأحمر، يجدها المراقبون تكبّل نفسها وخياراتها بتأكيداتها أنّها ليست في حالة حرب معها ولا تريد أن تُشعل حربًا.
وعلى الرغم من إدراك إيران وأذرعها التفوّق الإستراتيجي الأميركي، إلّا أنّها لا تتردد في الترحيب بالحرب إذا فُرضت عليها، أي إذا ما تمّ استهدافها.
وهذا الترحيب الإيراني بـ”الحرب الدفاعيّة” ليس له سوى هدف واحد: اللعب على نقطة الضعف التي تبديها الإدارة الأميركية في نهجها المعتمد في الشرق الأوسط.
ولم تعد أي دولة في الشرق الأوسط، بما فيها تلك الصديقة لها أو المتحالفة معها، تتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية كما كانت تتعامل معها سابقًا، فهي فقدت، بعد التجارب الكثيرة معها، صفة “الضامنة العسكريّة”.
وضعفت كلمة الإدارة الأميركية في المنطقة، حتى حيث تبرز عضلاتها، تبدو مصابة بالوهن، بحيث عجزت، على الرغم من مرور الأسابيع، عن وقف الاعتداءات الحوثيّة على حريّة الملاحة في البحر الأحمر، وتغاضت عن فقدان بحريّتها اثنين من رجالها، في مواجهة جرى تجاوزها مع البحرية الإيرانية، قبل أقل من عشرة أيّام، وتولّت تنظيمات عراقية موالية لإيران، بعد التصريحات الأميركية الأخيرة التي حاولت فيها تخفيف حدة تورط طهران في استهداف قواتها في “القاعدة الأردنيّة”، التصعيد في مواجهتها (حركة النجباء العراقية)، للتعويض عن تعليق “كتائب حزب الله” العراقية عملياتها، في أوج التهديدات الأميركية لإيران نفسها.
كانت طبيعة الرد الأميركي على استهداف القاعدة العسكريّة على الحدود الأردنيّة – السوريّة محط أنظار المراقبين لمعرفة ما إذا كانت الإدارة الأميركية قد أدخلت تعديلات على نهجها في الشرق الأوسط، لكنّ التمهيدات الصادرة عن البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع الأميركيّة والتسريبات التي تحفل بها الصحافة الأميركية المبرّئة لإيران، أظهرت أنّ “استراتيجيّة التنصل” مستقرّة، وبالتالي فإنّ الرد مهما كانت طبيعته وقوّته سوف يبقى ضمن الأطر المعتادة، أي استهداف الأذرع التي أثبتت أنّها قادرة على استيعاب أعتى الضربات، وليس “الدماغ” الذي يوفّر لهذه الأذرع قدرات الصمود ويعينها على تعويض خسائرها بسرعة.
ويبدو واضحًا أنّ الولايات المتحدة الأميركية التي رفعت، في ضوء تجربتها البائسة في العراق، شعار “لا عراق بعد اليوم”، عادت إلى الوضعية التي كانت عليها يوم رفعت شعار “لا فيتنام بعد اليوم”، ولن يمكنها من استعادة قوّة الفرض إلّا يوم تدخل تعديلات على شعارها ليصبح: بعد اليوم لا لـ”لا عراق بعد اليوم”!