بقلم: محمد حسين أبو الحسن- النهار العربي
الشرق اليوم– أصدرت محكمة العدل الدولية، الجمعة الماضي، قراراً أولياً في اتهام جنوب إفريقيا لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وأكدت المحكمة أنها وجدت أنه من المعقول أن تل أبيب ارتكبت أعمالاً تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية… اعتبرت صحيفة “الإندبندنت” الحُكم كارثياً على الدولة العبرية؛ لأنه أخطرها – عشية اليوم العالمي لذكرى الهولوكوست – بأن لديها قضية إبادة جماعية، أي “جريمة الجرائم”، ومرمغ سمعة إسرائيل أمام العالم، فماذا على العرب أن يفعلوا؟!
إبادة جماعية
في سابقة تاريخية بالنسبة لإسرائيل؛ دعتها محكمة العدل الدولية إلى أن تضمن “بشكل فوري” عدم قيام قواتها بارتكاب أي من تلك أعمال الإبادة المحظورة. قالت جوان إي. دونوجيو رئيسة المحكمة: “يساورنا قلق بالغ إزاء استمرار الخسائر في الأرواح بغزة”. هذا أمر لا يمكن الاستخفاف به؛ فلم يأت الاتهام – بحسب “الإندبندنت” – من فصيل إسلامي متطرف، أو من سياسي غربي معادٍ للسامية، وإنما صدر من أعلى محكمة في المجتمع الدولي، بناء على إجراءات رصينة ومدروسة، واستند إلى أدلة ذات صلة، وعليه، لا يمكن الاستخفاف به.
اتهمت “عريضة الدعوى” التي تقدمت بها جنوب إفريقيا للمحكمة إسرائيل بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها الموقعة عام 1948- كرد عالمي على محرقة اليهود (الهولوكوست) إبان الحرب العالمية الثانية، وهي اتفاقية وقعت عليها تل أبيب – قدمت بريتوريا ادعاءين رئيسيين، الأول: أن الجيش الإسرائيلي يرتكب أعمال إبادة جماعية، والثاني أن قيادات تل أبيب يدلون بتصريحات تدعو إلى هذه الإبادة. واستندت جنوب إفريقيا في إثبات حدوث الإبادة الجماعية إلى عدد القتلى – تجاوز 26 ألف شهيد فلسطيني، أغلبهم نساء وأطفال – والتهجير القسري، والحرمان من الطعام والدواء والطاقة وغيرها. كما اقتبست الدعوى طيفاً واسعاً من تصريحات قادة الدولة العبرية عن ضرورة اجتثاث الفلسطينيين من غزة، باعتبارهم “إرهابيين وحيوانات بشرية”، ناهيك عن التهديد بقصف القطاع بقنبلة ذرية لقتل كل من فيه ومحوه من الوجود.
وبناء على ما تقدم، أصدرت المحكمة الدولية قرارها الأوليّ، الجمعة الماضي، أما القرار النهائي في جوهر الدعوى إزاء ارتكاب إسرائيل “إبادة جماعية”؛ فإنه يستغرق سنوات للفصل فيه، لذلك طالبت جنوب إفريقيا بإصدار قرارات حماية طارئة، لحين انتهاء المحكمة من نظر القضية بالكامل.
وتعد محكمة العدل الدولية أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة، تأسست عام 1945 للتعامل مع النزاعات بين الدول؛ والأوامر الصادرة عنها ملزمة قانوناً، بيد أن المحكمة لا تملك أي وسيلة لتنفيذ أحكامها. أمرت روسيا بوقف هجومها على أوكرانيا، ولا تزال الحرب مشتعلة، لكن ذلك لا يقلل من القيمة القانونية والسياسية والإنسانية لتلك الأحكام. وتختلف محكمة العدل عن المحكمة الجنائية الدولية، والتي تتعامل مع تهم جرائم الحرب الموجهة ضد الأفراد.
استياء شديد
وبرغم من أن محكمة العدل لم تصدر قراراً بوقف الحرب، فإن القرار الأوليّ ينطوي على اعتراف مبطن بارتكاب “إبادة جماعية” في غزة؛ إذ قالت رئيسة المحكمة إنه نظراً للوضع المتدهور بالقطاع، فإن محكمة العدل تتمتع بالسلطة القضائية للأمر باتخاذ إجراءات لحماية سكان غزة من المزيد من خطر الإبادة الجماعية؛ ومن ثمّ يمثل الحكم الصادر بأغلبية القضاة إدانة رمزية لإسرائيل بانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، كذلك تقتضي الإشارة إلى منع أعمال الإبادة والحفاظ على حياة المدنيين وقف الحرب، مع السماح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية، مثلما طالبت المحكمة تل أبيب باتخاذ إجراءات فعالة لمنع تدمير أي دليل يتعلق بتهمة الإبادة، ومنحتها 30 يوماً لتقديم تقرير عن الإجراءات المتخذة.
وكما كان متوقعاً أثارت القضية استياءً إسرائيلياً شديداً. رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حكم المحكمة، وقال “إنه عالم انقلب رأساً على عقب”، وألمح إلى أنه لن يكون ملزماً بتنفيذ قرار المحكمة، مضيفاً: “لن يوقفنا أحد، لا لاهاي، ولا محور الشر ولا أي جهة أخرى”، بينما جددت الولايات المتحدة ودول أوروبية دعمها الكيان الصهيوني، و”حق إسرائيل في ضمان ألا تتكرر هجمات السابع من أكتوبر”، في استمرار لحالة الإنكار الغربية حول أن وجود الاحتلال الإسرائيلي هو السبب المباشر للأزمة، وأن من حق الشعب الفلسطيني أن يقاوم الاحتلال بشتى السبل.
وقد تعالت أصوات داخل إسرائيل نفسها، لافتة إلى عواقب سياسات الحكومة الإسرائيلية إزاء الحكم والأحداث في غزة. حذّر أميت ياغور، في مقال بصحيفة “معاريف”، من خطورة التفكير بمنطق “كل شيء أو لا شيء” أو منطق “إمّا هذا أو ذاك”، بمعنى “إمّا الاستمرار في القتال أو إعادة المختطفين، وإمّا النصر الحاسم في الحرب أو الخسارة، وإمّا إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة أو لا، وإمّا أن نكسب القضية أمام محكمة العدل الدولية أو نخسرها”، بلا منطقة متوسطة. وأوضح ياغور أن هذا المنطق في التفكير يصب في مصلحة “حماس”، ويضرّ بقدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها من الحرب.
الحق والقوة
ترتكز طبيعة النظام الدولي الراهن إلى أساس أن “القوة تخلق الحق وتحميه”، ولا تزال إسرائيل تحظى بدعم غربي جارف على المستويات كافة؛ يكفل لها الحصانة أو الإفلات من العقاب على نحو ما؛ ومن ثمّ يمثل قرار المحكمة “صفعة على وجه إسرائيل”. صحيح أنه لم يطالبها بوقف عدوانها فوراً، لكن هذا الكيان اختل توازنه أمام “القرار” الذي يعزز الرواية الفلسطينية ويفند المزاعم الإسرائيلية ويزيد من عزلتها دولياً؛ لأنه يرفع الحجاب عن أفعالها الإجرامية، لذلك شددت “الإندبندنت” على أن منطوق الحُكم من شأنه أن يُضعف استعداد حلفاء إسرائيل في ما يتعلق بتقديم الدعم لها. ونوّهت الصحيفة البريطانية بأنّ على إسرائيل، إنْ كانت تريد أن تعيش في سلام واستقرار، أن تحافظ على دعم حلفائها القريبين والبعيدين، وأن تبقى في حظيرة القانون الدولي، ومن هنا تكمن أهمية قرار محكمة العدل الدولية وجدّته.
وهو قرار سيكون له ما بعده في مسارات القضية الفلسطينية التي عادت إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعدما كادت تسقط في غياهب النسيان. هذا الزخم ينبغي استثماره لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وحسناً فعلت دول عربية وعالمثالثية وحتى أوروبية عندما سارعت للترحيب بقرار محكمة العدل الدولية، مع السعي إلى إعطاء القرار قوة إلزامية من خلال مجلس الأمن، ودفعه لإصدار قرار بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات، خاصة بعد تأكيد أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة أن قرارات المحكمة الدولية التي تعتبر الجهة القضائية للأمم المتحدة ملزمة.
وسوف يجتمع مجلس الأمن، اليوم، للنظر في قرار المحكمة الدولية، وهي فرصة لقيام الدول العربية والمتعاطفين مع الشعب الفلسطيني، ولا سيما دول الجنوب، بتوظيف كل الأوراق الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية؛ من أجل تركيز الأنظار على سلوكيات إسـرائيل ومواصلة الضغوط لوقف جرائمها، ويا حبذا لو شاركت منظمات المجتمع المدني في بلاد العرب والعجم في هذا الجهد بكل صوره.
لقد أظهرت غزة الحقيقة، خسرت إسرائيل بحكم محكمة العدل الدولية حُجّتها الأخلاقية في حرب تعتبرها وجودية، فالسيف أحياناً يكون أقوى من الدم، والضحية أقوى من الجلاد!