بقلم: سوسن مهنا- اندبندنت
الشرق اليوم– منذ إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري عما اصطلح على تسميته “اتفاق الإطار”، نهار الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، في شأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وبعد مراوحة دامت لسنوات برزت قضية الترسيم البري بين البلدين، علماً أن المفاوضات كانت قد توقفت سابقاً لاشتراط الجانب اللبناني تلازم المسارين البري والبحري. وفي الـ31 من أغسطس (أب) 2023 أقر مجلس الأمن الدولي تمديد عمل قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان “يونيفيل”، وأكد القرار “رقم 2695 من جديد دعوته جميع الدول إلى تقديم الدعم والاحترام الكاملين لإنشاء منطقة خالية من أي أفراد مسلحين وأصول وأسلحة باستثناء تلك التابعة للحكومة اللبنانية و(يونيفيل) جنوب نهر الليطاني، وأدان استمرار احتفاظ الجماعات المسلحة بالأسلحة خارج سيطرة الدولة اللبنانية في انتهاك للقرار 1701”.
ووفقاً لموقع الأمم المتحدة “حث القرار بقوة حكومة إسرائيل على التعجيل بانسحاب جيشها من شمال قرية الغجر والمنطقة المتاخمة شمال الخط الأزرق من دون مزيد من التأخير بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان”. في تلك الأثناء كان مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكستين في زيارة رسمية للبنان حيث زار الجنوب، وقال رداً على سؤال حول الحدود الجنوبية البرية “إنني أعتقد أنه بعدما بدأت أعمال الحفر والاستخراج (في البحر) حان الوقت لمراجعة الإطار الذي وقع نتيجة الترسيم البحري والعمل على الترسيم البري أيضاً. والآن بعد أن تمكنا من تحقيق الاتفاق منذ أشهر عدة رأينا أن ما تم تطبيقه حصل بسلاسة، فبذلك نستطيع أن نبحث ما تبقى من الإطار الذي طرحته الحكومة اللبنانية”. يذكر أن هوكستين هو من قاد الوساطة بين بيروت وتل أبيب اللتين وقعتا اتفاق ترسيم الحدود البحرية بينهما في الـ27 من أكتوبر 2022.
لمَ النزاع حول الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل؟
في شهر يونيو (حزيران) 2023 أقام “حزب الله” موقعين عسكريين في منطقة كفرشوبا الجنوبية متجاوزاً الخط الأزرق عند مزارع شبعا، وشهدت الحدود توغلات متبادلة بين الجيش الإسرائيلي والحزب في مناطق حدودية متنازع عليها، مما رفع حدة التوتر مستدعياً حراكاً أممياً ودولياً، مما دفع موضوع ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل إلى الواجهة، ذلك الأمر استدعى تحذيراً إسرائيلياً عبر “رسالة دبلوماسية” من خلال الأمم المتحدة بأنها ستستخدم القوة العسكرية لإخلاء الموقعين. ورد لبنان الرسمي على الطلب الإسرائيلي بإزالة الخيام على لسان وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بو حبيب، الذي قال حينها إنه “تم البحث في الأوضاع الأمنية في الجنوب، ونقلوا لنا مطلب الجانب الإسرائيلي بإزالة الخيمة”، مضيفاً “كان ردنا بأننا نريدهم أن يتراجعوا من شمال الغجر التي تعتبر أرضاً لبنانية. ونحن من ناحيتنا سجلنا نحو 18 انتهاكاً إسرائيلياً للحدود”.
بدوره صرح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بأن لبنان أبلغ الأمم المتحدة استعداده لترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل على طول “الخط الأزرق”، مشدداً على أن لبنان يعد بلدة الغجر تابعة له باعتراف الأمم المتحدة، ومؤكداً سعي بلاده إلى حل قضية خيمتي “حزب الله” على الحدود مع إسرائيل “دبلوماسياً”. وقال رئيس مجلس النواب نبيه بري إن “الخيمتين موجودتان على أرض لبنانية والمطلوب من المجتمع الدولي إلزام إسرائيل تطبيق القرار 1701 والانسحاب من الشطر الشمالي لقرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا نقطة الـ(B1)، وهي نقطة حدودية متنازع عليها”. بدوره، وفي الذكرى الـ17 لحرب يوليو (تموز) 2006، رفض أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله في خطاب منطق الحديث عن “ترسيم الحدود البرية” بين لبنان وإسرائيل، وطالب “بانسحاب العدو من النقاط اللبنانية المحتلة”، مؤكداً أن أرض بلدة الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا “لن تترك للإسرائيلي”، وأن الغجر “أرض لبنانية أعاد العدو احتلالها”، معتبراً أن مسؤولية إعادتها للبنان بلا قيد أو شرط تقع على “الدولة والشعب والمقاومة”.
ما قصة مزارع شبعا وقرية الغجر؟
في حديث سابق للمؤرخ اللبناني عصام خليفة مع “اندبندنت عربية”، وصف ما يتعلق بمسألة لبنانية مزارع شبعا أنه “خلط شعبان برمضان”، لأنها تتصل بالحدود اللبنانية مع سوريا، وليست مع فلسطين، مؤكداً أنه لا حاجة إلى اعتراف سوريا بـ”لبنانية” مزارع شبعا، لأن ذلك مثبت بالوثائق التاريخية، إضافة إلى محضر القاضيين العقاريين اللبناني رفيق غزاوي، والسوري عدنان الخطيب في شأن بلدة شبعا ومزارعها، والموقع في زحلة بتاريخ الـ20 من فبراير (شباط) 1946.
ويتضمن المحضر اعترافاً بلبنانية شبعا والمزارع التابعة لها، وبسورية بلدة مغر شبعا، كما أن “هناك اتفاقاً خطياً بين الطرفين يؤكد تبعية المزارع للدولة اللبنانية”. وأكد أن إسرائيل تعتدي على خط بوليه – نيوكامب في 13 نقطة، ولا بد للمفاوض اللبناني المطالبة بحق لبنان في النقاط بدءاً برأس الناقورة، وأماكن أخرى مثل مناطق رميش والمطلة والعديسة وغيرها من المناطق الجنوبية. وفي ما يتعلق بـ”الخط الأزرق”، يقول خليفة إنها “هرطقة، فهو وضع بعد الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة في مايو (أيار) 2000، وهو خط انسحاب تقني وليس خطاً للحدود اللبنانية الجنوبية”.
وتقع مزارع شبعا على الحدود بين لبنان وهضبة الجولان التي كانت تشكل الحدود اللبنانية – السورية قبل يونيو (حزيران) 1967. واليوم هي الحدود بين لبنان والجزء المحتل من الجولان من قبل إسرائيل. ويمر الخط الأزرق الذي رسمته هيئة الأمم المتحدة عام 2000 على جبل السماق، وشمال قمة جبل روس، إذ يبقى معظم منطقة مزارع شبعا (25 كيلومتراً مربعاً تقريباً) جنوباً له. وعلى رغم مطالبة لبنان بممارسة السيادة على عموم هذه المنطقة فلم تفرض الأمم المتحدة حتى الآن الانسحاب الإسرائيلي منها، لاعتبارها جزءاً من المناطق السورية الخاضعة لسيطرة إسرائيلية حسب اتفاق فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل، علماً أن شبعا تتبع لمنطقة العرقوب، وتمتاز بموقع جغرافي استراتيجي، باعتبارها حلقة وصل مع المستوطنات الإسرائيلية الشمالية والجولان.
بدوره يشير المستشار القانوني في المفوضية الأوروبية محيي الدين الشحيمي، في حديث مع “اندبندنت عربية”، إلى أن “بلدة شبعا ومزارعها لا تحتاج إلى مزيد من الدلائل والمستندات للإثبات بأنها لبنانية، فهناك وثائق وأدلة جمة تؤكد كلها سيادة الدولة اللبنانية عليها، وذلك حسب المعايير التي تعتمدها عادة الدول المعنية بالحدود بصورة ثابتة ومستمرة إظهاراً لسيادتها على منطقة ما.
ويعتقد العدد الأكبر من العلماء والفقهاء في القانون الدولي بأن هناك مجموعة من المعايير الضرورية والواجبة لتثبيت سيادة أية دولة على منطقة أو إقليم جغرافي معين، ومن أبرز هذه المعايير التي تعتبر من مظاهر السيادة هي ممارسة الاختصاص التشريعي والقضائي والإداري، والتحقيق في جرائم جباية الضرائب والرسوم وعمليات تسجيل الأراضي. إنها في الواقع معايير تمزج بين القانون وروحه وتتمثل بالنية والإرادة من جهة، والممارسة الفعلية للسيادة من جهة أخرى. وإذا كانت هذه المنطقة خالية من السكان يمكن عندها أن ينظر في وسائل إثبات مادية أو تقريبية محددة، تتعلق بصورة أساسية بوقت مارست خلاله دولة ما سيادتها وإدارتها في الحكم لهذه الأرض والمنطقة بصورة علنية وقانونية وسلمية ومتواصلة. أما إذا كانت آهلة بالسكان فإن الموارد البشرية في هذه الحالة تصبح بشكل بديهي عنصر الإثبات الأساس، ويمكننا هنا الاعتماد على مجموعة من الدلائل والسجلات، وفي حالة مزارع شبعا فكلها تشير إلى لبنانيتها”. ويضيف شحيمي أن “ما تحتاج إليه مزارع شبعا هو أن تقوم الحكومة اللبنانية بما عليها، وأن تطلب من الحكومة السورية القيام بسلسلة من الاجتماعات والمبادرات، يتم من خلالها ترجمة كتاب الحكومة السورية إلى الأمم المتحدة والذي تعترف فيه بلبنانية مزارع شبعا رسمياً وليس خطابياً، وتحويله إلى عمل قانوني له صيغته التنفيذية ومفاعيله على الصعيد الدولي”.
“قرية الغجر هي قرية سورية احتلتها إسرائيل”
أما العميد الركن في الجيش اللبناني خالد حمادة فيقول لـ”اندبندنت عربية” إن “مشكلة مزارع شبعا ليست مع إسرائيل بل بعدم الاعتراف بلبنانيتها من قبل سوريا”، وعما يسمى الجزء اللبناني من قرية الغجر، فـ”الضبابية التي أحاطت بموقف الدولة اللبنانية مما سمي الجزء اللبناني من قرية الغجر، كثيراً ما طرحت تساؤلات عدة منذ الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، الذي تلاه ترسيم للحدود تكرر بعد عام 2006 مع وضع القرار الدولي 1701 موضع التنفيذ، وبقيت التساؤلات جميعها من دون إجابات”. ويوضح أن “قرية الغجر هي قرية سورية احتلتها إسرائيل عام 1967. وما يسمى الجزء اللبناني منها، ليس مرده إلى شراكة عقارية لبنانية – سورية أوجدتها معاهدة بوليه – نيوكامب بين فرنسا وبريطانيا في عام 1923 أو اتفاق الهدنة في عام 1949، بل سببه التمدد العمراني لسكان هذه القرية من التابعية السورية إلى الداخل اللبناني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، حتى أصبح أكثر من نصف منازلها ضمن أراض تتبع عقارياً قرية الماري اللبنانية”.
ويضيف أنه “ما من تحفظ لبناني أو إسرائيلي على ذلك الجزء من الحدود، وليس الوضع القائم هناك سوى احتلال سافر لأراض لبنانية من دون وجه حق. كما أن سكان قرية الغجر السورية المحتلة، بخلاف كل الغجر المنتشرين في العالم لا يعانون الاضطهاد، وهم اختاروا جهاراً البقاء تحت الاحتلال في عام 2000، وهم ليسوا مضطرين إلى الانتقال والترحال عن الأراضي اللبنانية، التي لن تجرؤ سلطة مترددة على المطالبة بها، بل جل ما قامت به هو تحويل لبنان إلى جمهورية الغجر”. ويتابع حمادة أن “المقاربة اللبنانية لمسألة الغجر أدت إلى تقديم أكثر من ذريعة للعدو الإسرائيلي لجعلها حالاً مماثلة لمزارع شبعا. قرية الغجر ومزارع شبعا هما منطقتان سوريتان احتلتهما إسرائيل عام 1967، ثم تمددت قرية الغجر السورية المحتلة إلى الداخل اللبناني وتمدد معها الاحتلال الإسرائيلي إلى جزء من لبنان، وبالمثل أدخلت مزارع شبعا عنوة إلى الخرائط اللبنانية الجديدة بعد عام 2000 بقرار من دمشق لتحميل لبنان وزر احتلال إسرائيلي وتمديد صلاحية السلاح، باعتبار أنه ما زالت هناك أراض محتلة. وما يجمع الاحتلالين هو إخضاع التعامل معهما لأجندة إيرانية”.
النقاط الـ13
وفي شهر يوليو 2023، ذكر الإعلام اللبناني أنه شكل لجنة لبنانية مع الأمم المتحدة للعمل على تحديد النقاط المختلف عليها والوصول إلى حل في شأنها، في موازاة تفعيل عمل اللجنة الثلاثية التي تضم ضباطاً من الجيش ومسؤولين من قوات الطوارئ الدولية (يونيفيل) وضباطاً إسرائيليين للبحث في 13 نقطة يتحفظ عليها لبنان، وهي نقاط تمتد من بلدة الناقورة غرباً باتجاه بلدة الماري شرقاً. وخلال حديث صحافي، كان العميد المتقاعد في الجيش اللبناني بسام ياسين، الذي سبق أن ترأس الوفد التقني العسكري اللبناني المفاوض حول الحدود البحرية، قد شرح النقاط العالقة حيث تمتد على كامل الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، من البحر وصولاً إلى بلدة الغجر شرقاً على الحدود مع سوريا.
ويقول إنه “ما يسمى نقاط عبارة عن بقع جغرافية، أهمها نقطة (B1) الساحلية في منطقة رأس الناقورة التي سبق أن سببت الخلاف الرئيس بين لبنان وإسرائيل خلال ترسيم الحدود البحرية، فكان لبنان يطالب باعتبارها منطلقاً برياً لترسيم حدوده البحرية، وسط رفض من الجانب الإسرائيلي الذي يسيطر على تلك المنطقة الحدودية ويعتبرها جزءاً من أراضيه”. ويتابع أن “الاتفاق الذي حصل على ترسيم الحدود البحرية أبقى نقطة B1 قضية معلقة لحين الاتفاق عليها، فيما بقية النقاط الـ12 تمتد على كامل الشريط الحدودي، بعضها بقع صغيرة والخلاف عليها لا يتعدى الأمتار المعدودة، وبقع أخرى تصل إلى 2000 و3 آلاف متر مربع، وهناك بقعة تصل مساحتها إلى 18 ألف متر مربع، وهذه النقاط لا تشمل قرية الغجر ومزارع شبعا”. وتتوزع النقاط الـ13 على طول الحدود كالتالي، الأولى في رأس الناقورة، والمعروفة بالنقطة “B1″، وثلاث نقاط في بلدة علما الشعب، ونقطة في كل من البلدات الحدودية التالية: البستان ومروحين ورميش ومارون الراس وبليدا وميس الجبل والعديسة وكفركلا وصولاً إلى الوزاني. وكان اتفق على معالجة سبع نقاط من أصل 13 نقطة، أهمها التي تقع بمحاذاة مستوطنة مسكافعام.
هل بإمكان الجيش اللبناني الانتشار على الحدود الجنوبية؟
وكانت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا قد أكدت بعد الخروق التي طاولت القرار 1701 من قبل “حزب الله” والقوات الإسرائيلية على خلفية حرب غزة، “أن التنفيذ الكامل للقرار 1701 يعد مدخلاً أساسياً لتحقيق السلام والأمن والاستقرار في المنطقة”.
ومن أبرز الخروق التي طاولت القرار هو تمدد “حزب الله” إلى منطقة جنوب الليطاني وفقاً للعميد حمادة، مشيراً إلى أنه “بقدرة وبإمكان الجيش اللبناني الانتشار على الحدود والمهم أن تعطي الحكومة اللبنانية الأمر. الجيش مكلف ومن واجباته الانتشار على الحدود والتصدي للعدو الإسرائيلي، لكن بما أننا بظروف حرب فعلى الحكومة أن تعطي أمراً واضحاً لأن القوى الأمنية تتبع للحكومة بموجب المادتين 64 و65 من الدستور اللبناني، وبإمكان الجيش أن يقوم بما يقوم به (حزب الله) وبطريقة أفضل، لكن حالة النكران التي تعيشها الحكومة أمر مستغرب وكأن الحدود الجنوبية تقع في بلد آخر. إذ يخرج رئيس الحكومة ويقول إن قرار السلم والحرب ليس بيده، فيما في الأقل يجب أن يجمع الحكومة للتباحث بوضع الحدود”.
وعن مقومات الجيش يضيف العميد حمادة أن أول تلك المقومات “أنه جيش شرعي وليس بإمكان إسرائيل فتح النار عليه لأنه ليس ميليشيات مسلحة، وباستطاعته التقدم بشكوى لدى مجلس الأمن عند التعرض لأي اعتداء إسرائيلي، إذ إن القرار 1701 لا يسمح بوجود الميليشيات والعناصر المسلحة، فما يقوم به (حزب الله) هو إعطاء ذريعة لإسرائيل لقصف الأراضي اللبنانية”.