بقلم: عبدالحميد توفيق- العين الاخبارية
الشرق اليوم– يطرح الجمود الحاصل في الحركة الدبلوماسية بين تركيا وسوريا بعد أشهر من التواصل والنشاط الحثيث، ملف العلاقات بين الجارين مجددا على مصراعيه من زاويا التعقيدات التي تحكمها، والأعباء التي تقيدها، والأثمان التي لا مفر من تسديدها من قبل كل طرف.
على قاعدةٍ من التشكيك المسبق؛ انخرط الجانبان بداية العام الذي نودّع، في مسار تفاوضي ظل يترنح على خشبة المساومات رغم حُقَن الإنعاش الروسية بين الحين والآخر؛ بعضها مساومات بطابع تكتيكي تجلت في نهج الاستثمار التركي لملف التحول المزمع في العلاقة مع سوريا في مداعبة مزاج الناخبين إبان الانتخابات الرئاسية التركية، وهو ما حصل فعلا، قابلها إطار استراتيجي سوري لتطبيع العلاقات استنادا إلى حيثيات سيادية وطنية عنوانها الانسحاب التركي من الأراضي السورية.
تباينت دوافع أحدهما عن الآخر، اعتقدَ كل طرف بأن بين يديه من أوراق الضغط ما تجعله قادرا على الوصول إلى مبتغاه دون تنازلات جدية، أو بتعبير أدق تنازلات مؤلمة.
اصطدم الطرفان بحزمة المعطيات التي أفرزتها سنوات الحرب، فاتضح أن بعضها عصي على الكسر، وبعضها الآخر منيع على الترويض، إنها حزمة تكونت بفعل التاريخ والجغرافيا خصوصا عندما يغري أحدهما الآخر بالتحرك، وتصلبت بعوامل السيادة والمصالح بعد أن تهاوت صروح الثقة الطارئة والقصيرة المدى بينهما.
اكتشفا في منتصف الطريق أن تصفية المشاكل أكثر صعوبة من اختراعها، وأن بعض ما كان في الحسابات من عناصر قوة لدى أي منهما يمكن أن يتحول إلى أعباء على حاملها.
من غير المرجح استمرار الوضع القائم بين تركيا وسوريا إلى ما لا نهاية دون حدوث تغيرات عليه، تصعيدا كان أم تطبيعا، لكن إحداث تحول جذري على طريق التطبيع يقتضي حتما تصفية المشاكل العالقة بين البلدين انطلاقا من حسابات المصالح الذاتية بدايةً، ومن ثم مقاربة المصالح المشتركة التي برهنت تداعيات الحدث السوري على حقيقة تفاعلها المشترك، وتأثرها وتأثيرها المتبادل.
المنعطف الأكثر حدة في الموقف التركي ظهر بُعيد فوز الرئيس أردوغان بولاية رئاسية وتشكيل حكومة جديدة استَبعَد منها وزيري الخارجية، تشاووش أوغلو، والدفاع خلوصي آكار، اللذين أدارا محطات التفاوض الثنائية والموسعة مع الجانب السوري، ودفعا ملف التطبيع نحو آفاق ملموسة عبر التفاهمات التدريجية، لكن لم تكد ترخي تلك التفاهمات الأولية بظلالها التفاؤلية، حتى انبرى وزير الدفاع الجديد يشار أوغلو طارحا خارطة تطبيع بعناوين جديدة قديمة أقرب ما تكون إلى شروط تجاوزت الكثير من النقاط التي تم البناء عليها إبان الحملة الانتخابية وما بعدها بقليل، وقد قرأتها دمشق على أنها تدخّل سافر في الشؤون الداخلية، حيث اشترط للتطبيع مع سوريا صياغة دستور سوري جديد، والتطبيق الكامل للقرار 2254 ومشاركة تيارات سورية بعينها مقربة من تركيا في السلطة.
حقيقة الأمر أن جزءاً من نقاط الوزير يشار أوغلو هذه أعادت إلى الأذهان محددات الموقف التركي وشروط أنقرة بعد اندلاع الأحداث في سوريا في خريف عام 2011، بينما ظل الجانب السوري متمسكا بحقوقه السيادية المتعلقة بانسحاب تركيا من أراضيها كمدخل جوهري لبناء الثقة والتقدم إلى الأمام في مجمل الملفات العالقة بين البلدين.
التمايز بين الموقفين منبثق من تناقضين تطرحهما أساساً الحقائق الماثلة، فموقف سوريا مستند إلى حق راسخ مصان بقوانين دولية ومنبثق من واجبات وطنية تفرض على الدولة السورية صون سيادة البلاد وبسط سيطرتها على كامل ترابها، مطلب ترفض تركيا الاستجابة له، في وقت تراكمُ أنقرة بموقفها الأحدث ومطالبها، أعباء إضافية على كاهلها في الشمال السوري، حيث سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية، ورعايتها لعشرات آلاف المسلحين السوريين، وما يتطلبه كل ذلك من توفير الاحتياجات الأمنية والاقتصادية، وما يفرضه من تحديات سياسية على علاقاتها مع روسيا وإيران بسبب عوامل متعلقة بتحالف الأخيرتين مع سوريا، وما يحدثه أيضا من توترات بين الفينة والأخرى مع حليفتها واشنطن بسبب تحالف الأخيرة مع القوى الكردية في شرق الفرات التي تحاربها تركيا .
أيّ مقاربة للوضع القائم حاليا، ميدانيا وأمنيا وسياسيا، بين البلدين الجارين لا بد وأن تأخذ بالحسبان اختلاف أجندات اللاعبين جميعهم، وتباين أساليب التعبير عن وجودهم وعن مصالحهم في سوريا، وحدود اندفاع كل منهم خلف أهدافه، وهذه حقائق سياسية واضحة أفرزتها سنوات الحرب على الجانبين، وأصبحت عنصرا حاضرا، وإن بشكل غير مباشر، على طاولة الحوار، مع ضرورة عدم إهمال المؤثرات الخارجية، تبقى عوامل إحياء المسار التفاوضي ذاتيةً، تركيةً سوريةً، بالدرجة الأولى لأنها عوامل مرتبطة باستعداد كل طرف للعودة إلى المسار السياسي انطلاقا من مصالحه التي تفرضهما الجغرافيا والتاريخ عليهما كجارين.