بقلم: عمرو فاروق – النهار العربي
الشرق اليوم- تمتع البحر الأحمر بأهمية جيوسياسية واستراتيجية جعلته محل تنافس القوى الإقليمية المتصارعة، التي حوّلت “معركة غزة” إلى ساحة تحقّق من خلالها أهدافها غير المعلنة ومآربها التي تصبّ في مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية، ابتداءً من الولايات المتحدة الأميركية والصين وإيران وإسرائيل وروسيا.
التمعن في الأجواء المحيطة بالمشهد الغزاوي يُبرز تحوّله إلى غطاء وهمي لحروب “الممرات المائية”، والتمهيد الرسمي لعسكرة البحر الأحمر، في ظلّ الاستقطابات الإقليمية والدولية، والتوسّع في بناء القواعد العسكرية في منطقة القرن الأفريقي التي تشمل (19) قاعدة عسكرية، من بينها (9) في جيبوتي فقط، لمجموعة من الفرقاء الإقليميين، خلافاً للمزيد من القواعد العسكرية المحتملة في المرحلة المقبلة.
التوسّع في النفوذ العسكري في البحر الأحمر يُعدّ مدخلاً مهمّاً للتحكّم في الممرات والمضائق المائية الممتدة على جانبيه بطول 1900 كم، ويُطلق عليها “نقاط الاختناق البحري”، ومن ثم الهيمنة على حركة الملاحة والتجارة العالمية، وكذلك محاولة إثبات النفوذ السياسي واقتسامه بين القوى الكبرى التي صنعت مخالبها ورسختها في عمق الممر المائي الرابط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، والواصل بين المحيط الهندي وبحر العرب جنوباً، والبحر الأبيض المتوسط شمالاً .
حقّقت إيران من وراء حرب غزة أهدافاً عدة، في مقدّمتها الإعلان الرسمي عن قوة أذرعها في البحر الأحمر، من خلال محاصرة ميناء إيلات الإسرائيلي واستهداف السفن التجارية المتوجّهة إليه، على أيدي جماعة الحوثيين، وعن مقدرتها على تهديد المصالح الإسرائيلية والأميركية والغربية، وممارستها للضغوط في إطار مقايضة وقف الأعمال التصعيدية في مضيق باب المندب، بفك أصولها المالية المجمّدة، فضلاً عن اتباعها استراتيجية “الإلهاء” تفادياً لتداعيات تقدّمها في الملف النووي.
لم تتوقف الأهداف الإيرانية عند هذا الحدّ، لكنها انطلقت لطرح نظامها السياسي كرأس الحربة في الدفاع عن القضية الفلسطينية، سعياً منها الى خلق مساحة التفاهم والتقارب مع الدول العربية والإسلامية، وضرب الدور الريادي للمملكة العربية السعودية كزعيم للمحور السنّي، وتعطيلها كذلك المشاريع التطبيعية ذات التقارب الأمني والعسكري للدول العربية مع الجانب الإسرائيلي، في ظلّ المقترح الأميركي تشكيل “ناتو” عربي، موجّهاً ضدّ نظام الملالي، يضمّ في عضويته الدولة العبرية.
على الشاطئ الآخر تقف واشنطن التي تعمل على تفكيك أي تحالفات داعمة لمفاهيم الثنائية القطبية، وتعرقل تهديد المصالح الغربية والأوروبية في عمق البحر الأحمر لمصلحة القوى الصينية والروسية، في ظل محاولات إيران إعلان رقابتها وتحكّمها في الممرات المائية، وتقديم نفسها في دور الشرطي الحارس للملاحة البحرية، واعتبارها أنّ القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة والمنشآت النفطية في دول الخليج، هدف مشروع لـ”محور المقاومة”.
مساعي الولايات المتحدة وأهدافها غير المعلنة، جعلتها تستثمر معركة غزة، في استكمال بناء مشروعها العسكري في البحر الأحمر، تحت غطاء حماية المصالح التجارية الإسرائيلية، باعتباره أحد مكونات منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في ظل القرارات التي اتخذتها بكين بتوسيع القدرات العسكرية للجيش الصيني، في حماية المصالح الوطنية التنموية داخلياً وخارجياً، ومواجهة الآثار المترتبة على التوترات الإقليمية، وتأمين طرق النقل الحيوية والاستراتيجية، مواكبةً مع مبادرة “الحزام والطريق”.
يتضمن البحر الأحمر مجموعة من المشاريع البحرية والاقتصادية، أهمها أنّه يمثل خطاً أساسياً للمشروع الصيني لإعادة رسم خريطة التجارة العالمية المعروف بمشروع “طريق الحرير الجديد”، فضلاً عن مشروع “ممر الهند التجاري”، (IMEC) ، الرابط بين آسيا والشرق الأوسط بأوروبا عبر ميناء حيفا وصولاً إلى ميناء بيرايوس في اليونان، ويحظى المشروع بمباركة الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، لمواجهة التحدّيات الصينية.
ولا يمكن كذلك تجاهل الترويج للمشروع الإسرائيلي لإنشاء قناة بن غوريون، التي رُفعت السرّية عنها ضمن الوثائق الأميركية عام 1996، وتعمل على ربط ميناء إيلات على البحر الأحمر بميناء عسقلان على البحر المتوسط، والمتاخم للحدود الشمالية لقطاع غزة، بتكلفة 55 مليار دولار، في محاولة لاستغلال موقعها الجغرافي.
رغم وجود تكتلات عسكرية مشكّلة ومفعّلة مسبقاً، بمشاركة الدول الغربية والعربية والدول الشاطئية للبحر الأحمر، فإنّ واشنطن أعلنت تأسيس قوة دولية تحمي الممرات الملاحية في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، في 18 كانون الاول (ديسمبر) الجاري، تحت مسمّى “حارس الازدهار”، مع دعوة أعضاء تحالف ما يُعرف بــ”قوة المهام المشتركة” CTF153 الى المشاركة، والتي تشكّلت في نيسان (أبريل) عام 2022، وتضمّ (39) دولة، وتستهدف تأمين حرّية الملاحة ومواجهة التهديدات الأخرى مثل القرصنة، وتمثل جزءاً من القوة البحرية المشتركة التي تأسست عام 2001، وتعمل في نطاق الأسطول الخامس الأميركي في الخليج العربي.
إحجام الدول العربية عن المشاركة في قوات “حارس الازدهار”، يعود بشكل مباشر إلى هدف واشنطن في حماية المصالح الإسرائيلية، ومحاولة كسر عزلتها الدولية التي تعانيها بسبب جرائمها ضدّ مواطني قطاع غزة، فضلاً عن أنّ التحالف العسكري الأميركي يحمل أهدافاً غير معلنة، أكبر من فكرة التصدّي لاستهداف السفن التجارية المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.
لا شك في أنّ تصاعد تهديدات الملاحة البحرية في البحر الأحمر أثّر سلباً على سلاسل الإمداد العالمية، في ظلّ مرور أكثر من 14% من التجارة العالمية عبر ممراته، وتعليق عدد من شركات الشحن الدولية نشاطها، وتحويل بعض سفنها إلى طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من قناة السويس، وهي: “إم.إس.سي” السويسرية، و”إيه.بي مولر”، و”ميرسك” الدنماركية، و”سي.إم.إيه سي.جي.إم” الفرنسية، و”هاباغ لويد”، و”إيفر غرين”، و”بريتيش بتروليوم”.
تعاظم المخاطر الأمنية والعسكرية في البحر الأحمر دفع الدولة المصرية إلى تعزيز قدرتها الدفاعية في محيط البحر الأحمر، من خلال بناء قاعدة “برنيس” العسكرية، في 15 كانون الثاني (يناير) 2020، لتأمين حركة الملاحة العالمية عبر محور الحركة من البحر الأحمر حتى قناة السويس والمناطق الاقتصادية المرتبطة بها، ومواجهة التحدّيات الأمنية عبر جاهزيتها للتدخّل الفوري ضدّ أي اعتداء على أمنها القومي والعربي.
عسكرة البحر الأحمر ظاهرة جلية، تضعنا أمام الصراع المائي المرتقب أو ما يُعرف بـ”حرب الموانئ”، أو “حرب الممرات”،بين دوائر صناعة القرار السياسي والعسكري في الدول الكبرى التي تتشابك وتتقاطع مصالحها الاقتصادية في المياه الإقليمية، فضلاً عن تنوّع الأطراف الفاعل في محيطه، ما يمثل تهديداً محتملاً للدول العربية المطلّة على البحر الأحمر، ومحاولة جرّها إلى استقطابات وصراعات إقليمية، الى جانب الدوافع الأميركية لحماية إسرائيل، التي أدركت بعد حرب تشرين (أكتوبر) 1973 أهمية السيطرة والتحكّم في أجزاء واسعة من هذا الممر المائي، ما يزيد من إمكان تحوله إلى ساحة للصراعات الدولية.