بقلم: فارس خشان- النهار العربي
الشرق اليوم– يجد “حزب الله” نفسه، يوماً بعد يوم، مضطرّاً إلى تبرير جدوى استمراره في إشعال الجبهة اللبنانيّة ضد إسرائيل، إذ إنّه، بالإضافة الى ما ألحقه من أضرار فادحة بالاقتصاد اللبناني المنهار وما جرّه من دمار وخراب على البلدات والقرى الحدوديّة التي يعاني شعبها النازح الأمرّين، خسر، حتى تاريخه، ما يقارب المئة والثلاثين مقاتلاً، من دون أن يكشف عن أيّ رقم خاص بعدد جرحاه الذين، وفق ما هو متعارف عليه، يفترض أن يكونوا أكثر بثلاثة أضعاف، على الأقل، من عدد القتلى.
مشكلة “حزب الله” في لبنان عموماً وفي بيئته خصوصاً تكمن في أنّ هذه الخسائر البشريّة والماديّة والبيئيّة لم تقدّم، في واقع الحال، أيّ خدمة لا لقطاع غزة الذي تمّ اجتياحه وتدميره وإحراقه، ولا للضفة الغربيّة التي تتعرّض لعمليات أمنية متتالية ولاعتداءات منهجية من المستوطنين، في وقت وضعت لبنان أمام تحدّيَين خطرين.
التحدّي الأوّل دبلوماسي، بحيث بدأ يفقد لبنان الرسمي حتى دعم أكثر الدول اهتماماً به، كحال فرنسا التي تقترب، يوماً بعد يوم، من إدراج “حزب الله” في قائمة الجماعات الإرهابيّة، وفق ما يشي الكلام الأخير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في حين أنّ التحدي الثاني عسكري، إذ إنّ إسرائيل سوف تستفيد من خسارة لبنان الدعم الدبلوماسي الغربي، من أجل تبرير أيّ عملية عسكريّة موسّعة قد تشنّها ضد “حزب الله” ولبنان “الذي يؤويه”، مبررة ذلك بأنّها لا يمكنها أن تعيد عشرات الآلاف من سكان الشمال إلى منازلهم، إذا لم ينسحب “حزب الله”، فعليّاً، إلى ما وراء شمال نهر الليطاني.
ويحاول “حزب الله” أن “يُدوزِن” تبريراته لاستمرار إشعال الجبهة الجنوبيّة، على إيقاع التطوّرات الميدانيّة، حتى يتهرّب من الاعتراف بحقيقة يدركها سائر اللبنانيّين والعالم، من أنّه ينفّذ “الأجندة الإيرانيّة”، مثله مثل “الحشد الشعبي” في العراق و”أنصار الله” في اليمن والتنظيمات المتشابهة في سوريا.
وكانت إيران تطمح إلى أن تحوّل حرب “طوفان الأقصى” إلى ساحة مقايضة، بحيث تمنع تدحرج الحرب في غزة إلى حرب إقليميّة مقابل حصولها على مكاسب، منها على سبيل المثال لا الحصر، تخفيف القيود الماليّة والاقتصادية الناجمة عن مروحة واسعة من العقوبات، ولكنّ مسارعة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها إلى تعزيز حضورها العسكري في المنطقة أحبطت الخطة الإيرانيّة، إذ إنّ تفعيل قواعد “تلاحم الساحات” جرى الرد عليه بتفعيل قواعد “التحالف الدفاعي” الذي كان قد دفع بالكثيرين، على مدى سنوات طويلة، إلى وصف إسرائيل بـ”العضو غير الرسمي” في “حلف شمال الأطلسي”.
وقبل إطلالة مقررة للأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله، بعد أسبوع، بمناسبة حلول الذكرى السنوية لقتل قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” قاسم سليماني، بواسطة عمليّة نفذتها وحدة متخصصة في الجيش الأميركي في العراق، في عام 2020، ومن أجل احتواء تصاعد الامتعاض في بيئته السياسيّة، أتاح “حزب الله” للنائب السابق نوّاف الموسوي الذي كان قد سلّمه، في أثناء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، ملف “الموارد والحدود”، أن يتحدّث، بنبرته الهجوميّة الحادة المعهودة لديه، عن “فلسفة” مساهمة هذا الحزب في “حرب غزة”، فنسب إلى قيادة “حماس” قولها إنّ حرباً واسعة من جبهة لبنان ضد إسرائيل لن توقف الهجوم على القطاع، وإنّ وضع حدّ لهذه الحرب يحتاج إلى انتصار ميداني في داخل غزة.
ويتناقض تبرير الموسوي مع انتقاد سابق وجهته قيادات عدة في غزة ومن غزة يتقدّمها رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” خالد مشعل، إذ أجمع هؤلاء على أنّ الحدود التي يعتمدها “حزب الله” في إشعال الجبهة اللبنانيّة مع إسرائيل، أقل بكثير ممّا كان يُرجى من هذا الحزب فعله.
وفي ذهن هؤلاء الغزّويين أنّ المدى الزمني للحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة والضفة الغربيّة كان قد قصُر كثيراً، لو أنّ “حزب الله” في لبنان وسوريا والفصائل العراقية والحوثيّين نفّذوا ما وعدت به إيران في أثناء وضع مشروع “وحدة الساحات”، إذ كانت إسرائيل، بغض النظر عن مساهمات حلفائها المؤثرة في الأيّام الأولى، قد وهنت جدّاً، وهي تواجه على مدار الساعة مئات الصواريخ التي تسقط عليها من الجنوب والشمال، وآلاف المنتفضين في الضفة الغربيّة بما لهم من تأثير مباشر على فلسطينيّي الـ48.
واضطر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران السيّد علي خامنئي إلى التدخل مع قادة “حماس” من أجل إسكات الأصوات التي تنتقد “حزب الله”.
ولم يكتفِ الموسوي بهذا الحد، بل ذهب إلى ما اعتبره البعض “فضيحة حقيقيّة”، إذ قال في كلامه الذي جرى بثّه في خلال لقاء على شاشة “المنار” الناطقة الرسميّة باسم “حزب الله”: “نحن مستعدون لأن نذهب إلى آماد أبعد في ما لو كان هناك واقع لا يُسكت عنه في غزة”.
ولكنّ الموسوي في الحوار المعلّب معه لم يجد نفسه مضطرّاً إلى شرح المقصود بـ”واقع لا يُسكت عنه في غزّة”، في ظل تأكيدات عالميّة أنّ عدد الضحايا المكتشفين تخطى العشرين ألف قتيل، ناهيك عن ثلاثة أضعاف من الجرحى، وأن نسبة الأبنية المدمّرة تخطت الستين بالمئة وأن نسبة الجوع والعطش والتشريد وصلت إلى أكثر من تسعين بالمئة من الشعب، وأن عدد قتلى حركة “حماس”، بمن فيهم القيادات الميدانيّة، بلغ مستويات خطرة في مقابل خسائر إسرائيليّة لا تزال، بالمعيار العالمي للتوغلات البريّة الميدانيّة، “مقبولة”.
وكلام الموسوي المصرّح به بدل أن يقدّم جواباً منطقيّاً عن السؤال المتمحور حول جدوى فتح “حزب الله” للجبهة اللبنانيّة، أفهم الفلسطينيّين بأنّ ما يجهدون لاعتباره، في رسائلهم إلى الرأي العام العالمي وإلى مراكز القرار الدولي، بأنّه واقع لا يُسكت عنه، هو بالنسبة لـ”حزب الله”… واقع مقبول للغاية!
في الواقع، إنّ “حزب الله”، بفعل ارتباطه الوثيق بالأجندة الإيرانيّة، عالق في “منطقة التأزم”، فلا هو قادر على الانسحاب من حرب لا جدوى منها، ولا هو مستعد لتوسيع هذه الحرب، نظراً لأضرارها الفادحة عليه.