بقلم: عبدالوهاب بدرخان – النهارالعربي
الشرق اليوم- عيد الميلاد 2023 من الأكثر حزناً وأسىً في تاريخ المسيحية، تحديداً في بيت لحم، كما بالنسبة إلى مسيحيي غزّة الذين استهدف القصف الإسرائيلي كنائسهم الثلاث وقتل العديد منهم. هذه الكنائس، وإحداها من الأقدم في العالم على اسم القديس بيرفيريوس، ليست واجهات لفصائل المقاومة ولا يتجوّل المقاتلون في أنفاق تحتها، ولا ينتمي أحدٌ من رعاياها إلى حركة “حماس” أو سواها، وإذا كان هؤلاء قد بقوا في غزّة فلأنهم فلسطينيون. لكن إسرائيل لا تريدهم هناك، بل تسعى إلى اقتلاعهم أسوة بالمسلمين الذين هدمت معظم مساجدهم. وستبقى المجزرة في محيط المستشفى الأهلي المعمداني من أكثر الوقائع فظاعةً في الحرب على غزّة والأكثر وطأةً على ضمير العالم، الذي يبدو كأنه تجاوزها نظراً إلى توالي المجازر وكثرتها، ولا تقلّ هولاً عنها اليوم حقيقة أن المجاعة تزحف سريعاً إلى غزّة وأن تداعيات الحرب وانعدام الأمن الغذائي يخلّفان أمراضاً قد تفتك بعدد أكبر من الأطفال الذين قضوا بالقصف.
لم تنتهِ الحرب بعد، ولن تنهي قريباً، فالإسرائيليون تعلّموا بعد ثمانين يوماً أن “الإبادة” حتى بقنابل أميركية تزن طناً تتطلّب وقتاً، بضعة شهور أو ربما سنة أو سنوات. “مؤسف” بالنسبة إلى بنيامين نتنياهو ولآخرين في مجلس الحرب والحكومة أنه لا الرئيس الأميركي ولا الفرنسي ولا رئيس الوزراء البريطاني استجابوا طلبه ممارسة ضغط على مصر كي توافق على “استضافة” المليونين ونصف المليون غزّي، علماً بأن الأميركي حاول ولاقى صداً واضحاً، فالمسألة مطروحة منذ عقود لكن الـ”لا” المصرية محسومة.
مشكلة إسرائيل مع احتلالها المرفوض فلسطينياً، قبل أن يكون مرفوضاً دولياً، أنها أقنعت نفسها بأنه ليس احتلالاً بل وجود شرعي، وإذ سنّت عشرات القوانين العنصرية لـ”تحصينه”، فإنها باتت بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7/10 لا تستطيع العيش بوجود الستة إلى سبعة ملايين فلسطيني إلى جوارها، ولذا فهي تريد تصدير مشكلتها بتهجيرهم إلى مصر والأردن ولا تتخيّل “ما بعد غزّة” إلا توأماً لـ”ما بعد الضفة”.
لم تنتهِ الحرب، ولن تنتهي قريباً، بل إنها تتوسّع بمبادرة من إيران إلى البحر الأحمر وما بعده. لكن مجلس الحرب الإسرائيلي يتعامل مع أي حديث عن “إنهاء الحرب” على أنه كابوس. فمجرّد البدء بمفاوضات على “هدنة موقّتة” أشعل تصعيداً داخل التصعيد، إذ قيل إن الجيش الإسرائيلي أراد الضغط على “كتائب القسام” والفصائل الأخرى لتتخلّى عن شرط “وقف العدوان”، أي “وقف الحرب” أولاً والانسحاب من غزّة، قبل البحث في ملف إطلاق الأسرى والرهائن. كلّف هذا التصعيد أهل غزّة أكثر من ألفٍ آخر من الضحايا المدنيين، وتجاوزت الحصيلة الأحدث الـ74 ألفاً بين قتيل ومصاب، عدا المفقودين الذين تزايد عددهم إلى نحو 11 ألفاً مع انتشال جثث من تحت أنقاض في مناطق أخلاها الإسرائيليون، ومنها بيت لاهيا أقصى شمال القطاع وأقرب البلدات إلى الحدود، حيث اكتشف الدفاع المدني أن مئات القتلى قضوا في إعدامات ميدانية، ما مثّل بداية الانتقام للقتلى الإسرائيليين في مستوطنات غلاف غزّة، ولا يزال الانتقام جارياً.
على وقع القصف الكثيف والشديد، يتناقص شيئاً فشيئاً عدد الرهائن المطلوب إطلاقهم، وقد وضع شرط “حماس” وقف الحرب والانسحاب قادة إسرائيل أمام خيار صعب بل مستحيل قد يدفعهم إلى التخلّي عن الرهائن واعتبارهم من ضحايا الحرب، لكنهم سيواصلون تبرير استمرار الحرب بتحقيق الأهداف وأهمها “تحرير المحتجزين” و”القضاء على حماس”، أي إنهاء حكمها ووجودها في القطاع. أصوات إسرائيلية عديدة، بينها رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت ومسؤولون سابقون، خلصت إلى الإقرار بوجوب وقف القتال وعقد صفقة تبادل للأسرى، محذّرة من مواصلة الحرب إلى أن تنتهي من دون تحقيق أيٍ من الهدفين المعلنَين، ولم يتردّد بعضهم بالقول إن “النصر على حماس غير ممكن”، لافتين إلى التجارب الأميركية والسوفياتية في فيتنام وأفغانستان حيث عجزت جيوش نظامية كبيرة عن تحقيق انتصارات على تنظيمات مسلحة. وربما يقدّر هؤلاء أن حجم الخسائر البشرية والدمار الكبير للعمران والاقتصاد واستحالة البدء سريعاً بإعادة الإعمار في غزّة كفيلة بأن تضعف خطر فصائل المقاومة تلقائياً، وإلى وقت طويل.
لا يخفى على المعارضين الإسرائيليين لاستمرار الحرب، سواء لأسباب موضوعية يعرضونها أو لدوافع السياسية يضمرونها، أن المجتمع الإسرائيلي سيتلقّى إنهاء الحرب حتى مع عودة الرهائن على أنه “هزيمة”، تحديداً لأن الجيش لم يتمكّن من إنهاء “حماس” على رغم القوة والقدرات والخبرة التي راكمها طوال عقود، بل يدركون أن هذا المجتمع لا يستطيع التعايش مع “الهزيمة” وما بعدها. لكنّ هناك أمرين لا يجرؤ هؤلاء المعارضون على مقاربتهما: الأول، أن إسرائيل باتت تحتاج بشدّة إلى مراجعة الخيارات الأمنية والسياسية التي اتّبعتها في العقود الثلاثة السابقة، تحديداً منذ “اتفاقات أوسلو” وكيفية تعاملها مع الفلسطينيين ومواصلة الاستيطان واغتصاب أراضيهم وحتى في انتهاكها لمقدساتهم. والثاني، أن حكومات إسرائيل اعتقدت خطأً أن حلّ مشكلة الاحتلال يكمن في تجاهلها، وأن “التطبيع” مع بعض الحكومات العربية يمكن أن يُكسِب هذا الاحتلال نوعاً من المشروعية وأن “السلام” مع العرب متاحٌ من دون تنازلات أساسية للفلسطينيين.
لم تكن إسرائيل جاهزة للحرب، وظلّت مربكة وهي تخوضها. نالت الدعم المطلق من الولايات المتحدة لكنها ورّطتها في ارتباكها وفي أهداف يصعب تحقيقها. فكيف لواشنطن أن تشكّل تحالفاً دولياً – إقليمياً لإدارة ما بعد الحرب في غزّة إذا كانت إسرائيل مصممة على البقاء في القطاع بشكل أو بآخر، وكيف يمكن اصطناع هيئة حكم لغزّة تقبل عملياً باستمرار الحصار وتقنين المساعدات، أي باستمرار الاحتلال والحرب، وفقاً لما تقترحه وثيقة كُشف عنها وغدت محور خلافات مع واشنطن، تحديداً لأنها لا تقدّم أي حلول بل تعيد الصراع العربي – الإسرائيلي إلى مربعه الأول (إلغاء لاتفاقات أوسلو، تهجير من غزّة والضفة، مجازفة بإلغاء معاهدات السلام مع مصر والأردن…). وأشار بعض المحللين إلى أن إسرائيل أصرّت على هذه الخيارات بعدما أصرّت واشنطن على منعها من شنّ حرب مفتوحة على جنوب لبنان.
ألحقت الحرب أضراراً بحظوظ جو بايدن في إعادة انتخابه لولاية ثانية، والأكيد أن الحرب حدّدت منذ الآن نهاية المستقبل السياسي لنتنياهو. لكن ربما وجد الأخير بارقة أمل في زيارة إيفانكا ترامب وزوجها جاريد كوشنير وذهابهما إلى غلاف غزّة لمواساة ذوي القتلى والرهائن. لا بدّ أن نتنياهو يقلّب الآن السيناريوات لجعل 2024 سنة انتظار عودة دونالد ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض، فهذه وحدها يمكن أن تنقذه، ولديه زمرة المتطرّفين لمساندته.