بقلم: بدر حسن شافعي- الجزيرة
الشرق اليوم– “أعربُ عن خالص التعازي الصادقة لإسرائيل التي وقعت ضحية جماعة حماس الفلسطينية الإسلامية المسلحة.. لقد شعرت بعاطفة حقيقية تجاه الخسائر البشرية الفادحة التي سببها هذا الهجوم”.
هكذا كان نصّ رسالة رئيس الكاميرون بول بيا – صاحب أطول فترة حكم في أفريقيا حتى الآن “42 عامًا-، بعد يومين فقط من عملية “طوفان الأقصى”، والذي يعلن دعمه الواضح والعلني لإسرائيل و” ضحاياها”، دون أدنى إشارة إلى آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا برصاص جيش الاحتلال.
فلماذا هذا الانحياز الكاميروني لصالح الكيان الصهيوني؟، وهل هو وليد هذه اللحظة، أم أنه يكشف عن علاقة تاريخية ترتبط بحسابات داخلية خاصة به؟
إسرائيل والكاميرون ومدخل الأمن
لقد كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها “بيا” عام 1984 “- أي بعد عامين فقط من توليه الحكم “- سببًا رئيسيًا في ارتمائه في أحضان إسرائيل، لا سيما في المجال الأمني، مستفيدًا من تجرِبتها مع نظيره الزائيري، وجاره الشرقي موبوتو سيسي سيكو.
فـ “بيا” لم يعد يثق في حرسه الرئاسي، أو في فرنسا الدولة المستعمرة السابقة مع بريطانيا، حيث اتّهم باريس بالضلوع في هذه المحاولة الانقلابية، لذا قرر وضع إستراتيجية أمنية جديدة، وتشكيل وحدات حرس خاص، عهِدَ بها إلى بعض الضباط الإسرائيليين، وكان ذلك سببًا في إعادة العلاقات، مع تل أبيب، التي قُطعت بعد حرب أكتوبر 1973.
وبالفعل تولى تشكيل هذه القوات كل من مائير ميوهاس، وهو يهودي مصري، وعقيد سابق في الجيش الإسرائيلي، وآفي أبراهام سيفان، وهو الملحق العسكري السابق في سفارة إسرائيل لدى الكاميرون.
عُرفت هذه القوات، في البداية، باسم قوات التدخل الخفيف، ثم تغيّر الاسم إلى قوات التدخل السريع، وتشكلت من 3 آلاف جندي، كانوا بمثابة جيش داخل الجيش، وهي تتبع للرئيس مباشرة، ولا تخضع لإشراف أو مساءلة القوات المسلحة، بل هي أكثر تسليحًا من الجيش النظامي بأفرعه الثلاثة: البرية، والبحرية، والجوية.
وبات بيا يعتمد عليها في حمايته الشخصية، وفي مواجهة محاولات الانفصال لدى جماعة الأنجلوفون غرب البلاد، الراغبة في إقامة دولة “أمبازونيا” في المنطقة ذاتها التي تحمل الاسم ذاته، فضلًا عن مواجهة هجمات جماعة “بوكو حرام” القادمة من كل من الجارة الغربية نيجيريا، والشرقية ” تشاد”.
هذا التعاون الوثيق لـ “بيا”مع تل أبيب، دفعه لإظهار ولائه لها، في مناسبات عدة، منها – على سبيل المثال لا الحصر- استضافته عام 1986 رئيس وزراء إسرائيل في حينها شيمون بيريز، رغم الضغوط والانتقادات التي تعرض لها من بعض الدول والمنظمات الأفريقية والعربية لعدم إتمام هذه الزيارة.
ومنها رفضه في العام التالي مباشرة – ومع بدء انتفاضة الحجارة في فلسطين عام 1987 – تصويت بلاده لصالح قرار منظمة الوحدة الأفريقية، الذي يدين القمع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وفي المقابل قيامه عام 1991 بالتصويت لصالح قرار الأمم المتحدة الذي يلغي قرارها السابق عام 1975 بمساواة الصهيونية بالعنصرية.
لماذا التأييد الحالي لإسرائيل؟
وإذا كان الرجل قد ردّ الجميل لتل أبيب، لدعمها إياه قبل أكثر من أربعة عقود، فلماذا يستمر في تأييدها حتى هذه اللحظة؟ وما هي المكاسب التي سيحصل عليها؟
يمكن القول بوجود عدة أسباب من وجهة نظرنا، تدفعه لذلك:
البيئة الأمنية التي تعيش فيها البلاد داخليًا، وخارجيًا ” دول الجوار”. ففي الداخل، لا يزال الرجل يرفض أيّة تسوية سياسية مع الحركة الأنجلوفونية الراغبة في الاستقلال، بل يمكن القول؛ إن إستراتيجيته القائمة على سياسة القبضة الأمنية، هي التي أوصلت هذه الحركة للرغبة في الاستقلال؛ بسبب عدم مراعاته التنوع الذي تشهده البلاد حتى قبل استقلالها.
فمن المعلوم أن الوضع السياسي في الكاميرون، يكاد يشكل حالة فريدة في القارة، فبعد انتهاء الاحتلال الألماني لها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، خضعَ 80% من البلاد للانتداب الفرنسي، مقابل 20% للانتداب البريطاني.
واستقل الجزء الفرنسي أولًا عام 1960 بقيادة أحمد أهيجو أول رئيس للبلاد، تلاه الجزء البريطاني بعد ذلك بعام واحد، ليتم تشكيل جمهورية الكاميرون الاتحادية.
كما يتّضح من الاسم، فإنه يشير إلى هذا التنوع الذي حرص أهيجو على التأكيد عليه ثانية مع تغيير اسمها عام 1972، ليصبح جمهورية الكاميرون المتحدة، لكن وبعد محاولة الانقلاب التي تعرض لها خلفه بيا عام 1984، قام بتغيير اسم البلاد ليصبح الكاميرون فقط، مع هيمنة واضحة للفرانكفون، وتهميش كبير للأنجلوفون، بلغ ذروته عام 2016، مع سعي الحكومة لفرض اللغة الفرنسية في محاكم المناطق الإنجليزية ومدارسها، فضلًا عن التهميش الاقتصادي وقلة الموارد المخصصة لهم.
أدى ذلك إلى إعلان الانفصاليين استقلالهم، وتسمية دولتهم الجديدة بـ”أمبازونيا” في أكتوبر 2017، ومنذ ذلك الحين، يشنّ النظام حملة عسكرية مكثفة ضدهم، تقودها قوات التدخل السريع المدربة من قبل شركات خاصة إسرائيلية. ووَفق مقال لصحيفة “تايمز” البريطانية 2020، فإن هذه القوات قامت بانتهاكات صارخة في مجال حقوق الإنسان، بما فيها القتل والتعذيب والحرق والعنف الجنسي خلال مواجهة حركة الانفصال الأنجلوفوني.
أما على الصعيد الخارجي، فإن هناك اضطرابًا أمنيًا في دول الجوار التي تشهد حالةَ من عدم الاستقرار السياسي، التي تواجه جارتَيه في الشرق: “تشاد وأفريقيا الوسطى”، فضلًا عن مواجهة الحركات الإسلامية المسلحة القادمة من نيجيريا.
هذا الاضطراب الأمني؛ الداخلي والخارجي، يجعل الرئيس في احتياج دائم لقوات التدخل السريع، المصنوعة بأيادٍ إسرائيلية، والتي يُخشى أن تكون هي رمانة الميزان في البلاد، والمتحكمة في مصيرها السياسي بعد رحيله.
وربما يكون دورها الراهن- واعتماد الرئيس عليها بصورة كبيرة- يشبه إلى حد كبير دور قوات الدعم السريع في السودان، التي كانت الحامي الأساسي للبشير في مواجهة تمرد دارفور وغيره، وبات يعتمد عليها بصورة كبيرة، إلى أن كانت إحدى أدوات الانقلاب عليه عام 2019، ولتصبح أحد الفاعلين الأساسيين في الحرب الدائرة الآن في البلاد، ولذا هناك مخاوف من أن تشهد الكاميرون حالة مشابهة لها.
رغبة الرئيس بيا في الترشح للجولة القادمة من الانتخابات التي ستجرى عام 2025، فالرجل التسعيني، لم يكتفِ بكونه صاحب أطول فترة حكم في أفريقيا، وإنما يرغب في الترشح ليصل إلى العام 2032، أو في أقل تقدير تمكين ابنه فرانك “52 عامًا” من مقاليد السلطة. وبالتالي فهو يحتاج لدعم أميركي بالأساس؛ بعد توتر علاقاته بفرنسا.
من المعروف أنّ هذا التحدي الفرنسي يحتاج لدعم أميركي موازٍ، على غرار ما قام به قادة الانقلاب في النيجر مؤخرًا، كما أنه من المعروف أيضًا أن إسرائيل ربما تكون الأداة والوسيط لذلك؛ لذا فهو يرغب في استمرار العلاقات مع تل أبيب لضمان أمنه الشخصي من ناحية، وأمنه السياسي من ناحية ثانية، خاصة في ظل التقارير الدولية المختلفة التي تشير إلى تدهور الأوضاع في البلاد على مختلف الأصعدة، فضلًا عن عملية القتل الممنهج ضد “الأنجلوفون”، واستمرار عمليات النزوح الداخلي والخارجي.ويبدو أنّ هذه المساعي باتت تؤتي أكلها، فالإدارة الأميركية تغض الطرف عن ممارسات بيا ضد الانفصاليين ولم تتخذ أية خطوات عملية تجبره على التفاوض معهم، رغم صدور قرار من مجلس الشيوخ الأميركي، قبل عامين، يدعو جميع الأطراف للحوار والتوصل لتسوية سياسية للأزمة الراهنة.
الرغبة في الحصول على التمويل الدولي من المؤسسات الدولية: “البنك الدولي، وصندوق النقد” وغيرهما، لمواجهة الأوضاع الاقتصادية السيئة في البلاد.
وهو يعلم أيضًا الثقل الأميركي داخل هذه المؤسسات؛ لذا يتحين الفرص لإعلان ولائه لإسرائيل، لضمان تأييد واشنطن. وهو ما حدث أيضًا، إذ تستمر عمليات التمويل الدولي له من مصادر مختلفة، دون أي شروط ترتبط بالأوضاع السياسيّة الداخلية أو الأمنية، بل ربما الإشارات الخارجية التي تصل إليه، مفادها يمكنك العمل دون ضجيج، فنحن نندد علنًا، وندعمك سرًّا.