بقلم: محمد حسين أبو الحسن- النهار العربي
الشرق اليوم– وُلِد في ألمانيا عام 1923، وفي سن الخامسة عشرة فرّ من النازيين إلى أميركا، ولما بلغ العشرين أصبح مواطناً أميركياً. إنه هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، الذي رحل عن عالمنا، 29 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بعدما تجاوز عمره المئة عام بشهور، تاركاً حكاية لها العجب، تبدأ فصولها من واشنطن وتمتد أحداثها عبر الكرة الأرضية، وكان الشرق الأوسط إحدى محطاتها المهمة، حيث قدّم “ثعلب السياسة الأميركية” استعراضاً ما بين الإغراء والإغواء والإكراه لوصل الجسور بين العرب وبني جنسه من الإسرائيليين. في الوقت نفسه كان مشغولاً بمشاهدة فنانة استعراضية (راقصة)، ليثبت أنه “راقص” بارع، مثلما يجيد “الغرام الجيوسياسي”!
ثعلب الدبلوماسية
عمل الفتى اللاجئ عاملاً بأحد المصانع، ثم صحافياً بصحيفة أسبوعية، قبل أن يبدأ دراسته بجامعة هارفارد، ثم نال درجة الدكتوراه، وقد تناولت أطروحته “السلام والشرعية والتوازن” في سياسات مترنيخ وكاستلريه. وأحسب أنه كان ينظر إلى الداهية مترنيخ بوصفه أستاذه الأول، إذ أرسى السياسي النمساوي ما عرف بسلام الـ100 عام، بعد سقوط نابليون بونابرت في 1815. وقد أسهم السياسي البريطاني كاستلريه في تحقيق هذا الإنجاز.
بعد ذلك أصبح كيسنجر أحد أقطاب الإدارة الأميركية وأبرز صانعي السياسة العالمية، في عهدي الرئيسين نيكسون وفورد، ومستشاراً لرؤساء أميركيين تالين. عُرف بأنه ثعلب الدبلوماسية الماكر، أحد أخطر رجالها الذين لعبوا أدواراً فارقة بالساحة العالمية، منذ الثلث الأخير من القرن العشرين؛ ما إن يدخل مكاناً حتى تتعلق به الأنظار وتنجذب إليه العقول؛ بنيته الصغيرة وقامته المحنية ونظارته ذات الإطار الداكن وعيناه اللتان تشعّان ذكاءً، صوته الأجش وأفكاره العميقة المرتبة وحضوره الطاغي، تضفي عليه هالة أسطورية؛ فهو أكاديمي لامع ومفكر استراتيجي قدير، اتسمت آراؤه بالتعقيد من جهة الفكر والبساطة من ناحية العرض، يفهم الصورة الكبيرة، يفككها ويعيد صياغتها، ما جعله عملة نادرة بين أهل السلطة، ينتقل من عاصمة لأخرى، في رحلات مكوكية بلا كلل، يجادل الزعماء، ويخوض أعقد القضايا.
في كتابه “ضرورة الاختيار”، حدد كيسنجر الفرق بين السياسي البليغ والسياسي العميق، يرى أن السياسي البليغ يبتعد عن أعماق المشكلة وأساس الحقائق، يعتمد على ما يقدم له من ملخصات عن الأوضاع؛ فيبتعد عن الابتكار، لذلك يرى “الثعلب” أن عالمنا يحتاج إلى السياسي العميق الهادئ الذي يحلل الأشياء، قبل أن ينطق بكلمة، مؤكداً أن “المسؤول الحقيقي” لا يستحق لقبه ما لم يتمتع بنكران الذات، والقوة والحكمة في مواجهة العواصف السياسية، وأن يكون قريباً من رجال مثقفين لا بيروقراطيين.
مناورات خطيرة
كان كيسنجر أحد صقور الحرب الباردة، أجرى سلسلة مناورات جيوسياسية محفوفة بالأخطار، انطلاقاً من رؤية براغماتية، راوغ الاتحاد السوفياتي، وعاداه دون صدام، في الوقت نفسه اعترف بالصين الشيوعية بقيادة ماو، وسعى لصداقتها، وفقاً لما عرف بدبلوماسية “بينغ بونغ”، حاز جائزة نوبل للسلام عام 1973، لجهوده السلمية في حرب فيتنام، كما لعب دوراً بارزاً في فك الاشتباك بين العرب وإسرائيل خلال حرب أكتوبر 1973. جولات كيسنجر “المكوكية” أوصلت الفريقين المتحاربين إلى تهدئة، تلتها “اتفاقيات سلام” أعادت صياغة حاضر المنطقة ومستقبلها، بعدما كادت الحرب في الشرق الأوسط تتحول إلى صراع دولي، يهدد بجرّ العالم إلى أسوأ ركود اقتصادي منذ “الكساد العظيم”، على خلفية تضاعف سعر النفط أربع مرات. وهو ما يحاول وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن استنساخها اليوم في غزة، دون نجاح.
لكن صورة هذا “المخضرم” لطّخها الوحل؛ لدوره في إطاحة حكومة سلفادور ألليندي المنتخبة ديموقراطياً في تشيلي، وغزو كمبوديا وتيمور الشرقية، فضلاً عن حرب فيتنام نفسها، إلخ… بدت جائزة نوبل بلا مبرر، اعتبره كثيرون “مجرم حرب”. رد على ذلك قائلاً: “لماذا نحتاج إلى الوقوف مكتوفي الأيدي ومشاهدة بلد يتحول إلى الشيوعية بسبب عدم مسؤولية شعبه؟”. تدخلت واشنطن في دول حول العالم لإقامة أنظمة تابعة. لم يخف كيسنجر الأمر، وعندما سئل أن هذه السياسات مخالفة للمبادئ التي يتشدق بها الأميركيون؛ قال: “علينا ألا نتخلى عن مبادئنا، وأن نعي أيضاً أننا لا نستطيع الحفاظ على مبادئنا ما لم نتمكن من البقاء”.
لا يعير كيسنجر المثالية أهمية كبيرة في السياسة. المثالية – في رأيه – لا تمكّن المرء من التقدم إلا تقدماً محدوداً، هكذا تنطبق عليه أوصاف “رجل السلام” و”مجرم الحرب”. لم يندم الداهية طوال عمره المديد على ما فعل، لم يكترث بالماضي، ودوماً مشغول بالمستقبل، ظل “الدكتور كيسنجر” لاعباً رئيساً في الدبلوماسية العالمية. بعدما غادر مناصبه الرسمية، قدم نصائحه لكبار زعماء العالم في القضايا الجيوسياسية، ووجد آذاناً صاغية. وبقدر ما أثارت آراؤه الإعجاب فجّرت الجدل والاختلافات بشأنها، مثل موقفه من الحرب في أوكرانيا، عندما دعا إلى وقف لإطلاق النار، قائلاً: “وصلنا إلى نقطة حققنا فيها هدفنا الاستراتيجي، وأن المحاولة الروسية لابتلاع كييف فشلت”، كما أثار حديثه المتكرر عن فوائد الذكاء الاصطناعي وتحدياته صخباً مماثلاً.
يشاع أن كيسنجر “زير نساء” وله قول مشهور: “السلطة أعظم مثير للشهوة الجنسية”، ونجح في توظيف الثروة والقوة والهيبة الأميركية وإظهارها للعالم، وأي جردة لحسابه، يجب أن تأخذ في الاعتبار ما فعله من أمور صائبة أو خاطئة سياسياً وأخلاقياً، واستخلاص العبر والدروس منها.
الراقصة والسياسي
كان الرجل محباً للحياة مقبلاً عليها، برغم انشغالاته الواسعة. على سبيل المثال، خلال زياراته المتكررة للقاهرة، بعد حرب أكتوبر، كان يهوى السهر على ضفاف النيل، ويحب مشاهدة “رقصات” الفنانة المصرية نجوى فؤاد، بل إن الفنانة صرحت في أحد البرامج التلفزيونية بأن كيسنجر عرض عليها الزواج، لكنها رفضت؛ لأنها كانت متزوجة أصلاً، وقد ذكرها “ثعلب السياسة الأميركية” في يومياته، بقوله: “بعد يوم طويل من المفاوضات والجدل بين دهاليز السياسة، أخيراً أستريح في سهرة أحرص فيها دائماً على وجود الراقصة المصرية التي فُتنت بها (…) كنت أحرص دوماً قبل وصولي إلى القاهرة على التأكد من أن الراقصة المصرية، نجوى فؤاد، موجودة. كانت تبهرني، وأعتبرها من أجمل ما رأيت في العالم العربي، إن لم تكن هي الوحيدة”!
وبرحيل أشهر وزير خارجية في التاريخ الحديث، مؤخراً، اتجهت أنظار العالم إلى أبرز أدوار كيسنجر، والتي لعبها ببراعة، في أثناء توترات الحرب الباردة بين السوفيات والأميركيين وحرب 1973 وغيرها من الصراعات السياسية التي ظهرت بصماته فيها بمهارة لا يمكن إنكارها، وخصوصاً أن أميركا اليوم تعاني ظروفاً مشابهة لأجواء الحرب الباردة، وسط احتكاكات حادة مع روسيا والصين وأوضاع ملتهبة في الشرق الأوسط وغيرها من الملفات الدولية، لكن واشنطن تفتقد مهارة كيسنجر في الميدان الجيوسياسي. إنه الرجل الذى عرف كيف ينفذ من نقاط ضعفنا ويقود المنطقة إلى ما وصلت إليه اليوم. كثير من القادة العرب الذين تفاوضوا مع كيسنجر، استجابوا لضغوطه وفقاً لسياسة “العصا والجزرة”. اقتنعوا بأن المبادرة بتقديم إغراءات، أي تنازلات، بدءاً بطرد الخبراء السوفيات، وحتى مبادرة “السلام العربية”، هى الطريقة التى تثبت حسن نيتهم وتشجع إسرائيل على التجاوب مع المفاوضات… وفي كل مرة كانت النتيجة اقتناص أميركا وإسرائيل التنازلات العربية، بينما تتمسكان بمواقفهما المتشددة، بل تضاعفان الضغوط لانتزاع مزيد من التنازلات، وهكذا. تلك تركة كيسنجر فى المنطقة، والتي سارت عليها إسرائيل بمهارة، وتجاوب معها العرب أكثر مما كان يجوز، وبتكلفة أكبر مما يتحملون؛ فصحونا على ليل غزة. لقد شكل الرجل القرن العشرين بمحاسنه ومساوئه، وسيظل طيفه على مسرح السياسة الدولية، مقدماً درساً مثيراً في اللعب بـ”البيضة والحجر” لتحقيق أهدافه!