بقلم: كفاية أولير- اندبندنت
الشرق اليوم– كشفت التسريبات النووية، في تحقيق أجرته صحيفة “ذا غارديان” على مدى عام، عن مشكلات تتعلق بالقرصنة الإلكترونية والتسريبات الإشعاعية والثقافة السامة داخل مكان العمل في الموقع النووي الأكثر خطورة في بريطانيا “سيلافيلد”.
وأوضحت أيضاً كيف أن ركناً صغيراً من بريطانيا يتمتع بنفوذ هائل على علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة ومع الدول المرتبطة بالتاريخ المشترك لتطوير الأسلحة النووية، كما يراقب جيران بريطانيا في أوروبا، بخاصة النرويج وإيرلندا الموقع عن كثب، إذ وصلت حوادث التلوث والنشاط الإشعاعي السابقة نتيجة للحريق إلى شواطئهم.
سيلافيلد
يحوي موقع “سيلافيلد” الممول من دافعي الضرائب في كمبريا، على الساحل الشمالي الغربي النائي لإنجلترا، أكبر مخزن للبلوتونيوم على هذا الكوكب، وهو عبارة عن موقع ضخم لإيقاف التشغيل النووي ومكب للنفايات، يتعامل مع بقايا عقود من توليد الطاقة الذرية وبرامج الأسلحة النووية، كما أنه يستقبل أيضاً النفايات النووية من دول مثل إيطاليا واليابان وألمانيا والتي تتم بعد ذلك معالجتها وتعبئتها وإعادتها.
ويعود اسم المجمع الصناعي في الأصل إلى “ويندسكيل” الذي يرجع تاريخه إلى سباق التسلح في الحرب الباردة، وكان الموقع الأصلي لتطوير الأسلحة النووية في المملكة المتحدة عام 1947، حيث تم تصنيع البلوتونيوم، بينما كانت البلاد تتسابق لبناء قنبلة ذرية.
وكان الموقع مسرحاً لواحدة من أسوأ الكوارث النووية في أوروبا، وهي حريق مفاعل “ويندسكيل” عام 1957 الذي حمل عموداً من الدخان السام عبر القارة، وكان أيضاً موطناً لأول محطة طاقة نووية تجارية واسعة النطاق في العالم “كالدرهول” التي افتتحت في 1956 وتوقفت عن توليد الكهرباء عام 2003.
ويضم الموقع ما يقارب 1000 مبنى وقوة عاملة تبلغ 11000 فرد، وله السكك الحديد الخاصة به وشبكة طرق، وخدمات غسيل للملابس العادية والمشعة المحتملة، وقوة شرطة خاصة به تضم أكثر من 80 كلباً.
ولا تزال بريطانيا تمتلك مجموعة من محطات الطاقة النووية، غالبيتها مملوكة لشركة “إي دي إف” الفرنسية والتي تولد حوالى 16 في المئة من الكهرباء لشبكة الطاقة.
وتقوم بريطانيا أيضاً ببناء محطات جديدة للطاقة النووية، بما في ذلك محطة “هينكلي بوينت سي” في سومرست، على رغم أن نفاياتها سيتم دفنها في نهاية المطاف في منشأة جديدة للتخلص الجيولوجي.
مخاوف الأمن السيبراني
في حين توصل تحقيق الصحيفة إلى أن محطة “سيلافيلد” تم اختراقها من قبل مجموعات إلكترونية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بروسيا والصين، وأن كبار الموظفين يتسترون على آثارها المحتملة.
وكان الاختراق واحداً من سلسلة من المشكلات الإلكترونية في الموقع، وتم التستر عليها من قبل كبار المديرين، وشملت المخاوف الأخرى قدرة المقاولين الخارجيين على توصيل شرائح الذاكرة بالنظام من دون إشراف، وتمكن الموظفون في المواقع البعيدة من الوصول إلى خوادم الكمبيوتر الخاصة بها.
وقامت هيئة الرقابة النووية في بريطانيا ومكتب التنظيم النووي (ONR) بوضع الموقع في شكل من أشكال “التدابير الخاصة” بسبب الإخفاقات المستمرة في الأمن السيبراني.
وقالت المصادر إن الخروقات السيبرانية تم اكتشافها للمرة الأولى عام 2015، عندما أدرك الخبراء أن البرامج الضارة النائمة، وهي برامج يمكن أن تكمن وتستخدم للتجسس على الأنظمة أو مهاجمتها، تم تضمينها في شبكات الكمبيوتر الخاصة بـ “سيلافيلد”، في حين لا يزال من غير المعروف ما إذا كان تم القضاء على البرامج الضارة أو لا، وقد يعني ذلك أن بعض بيانات الموقع النووي “سيلافيلد” الأكثر حساسية في شأن الأنشطة مثل نقل النفايات المشعة ومراقبة تسرب المواد الخطرة والتحقق من الحرائق تعرضت للخطر.
تفاقم التسرب
وكشف التحقيق عن تفاقم تسرب السائل المشع من صومعة متحللة تتسرب منها المواد المشعة إلى الأرض، ومن المرجح أن يستمر التسرب حتى عام 2050.
وتحدثت الصحيفة أيضاً عن مخاوف في شأن “بي 30″، وهي بركة تحوي حمأة نووية من قضبان الوقود النووي المتآكلة والتي يكون جلدها الخرساني والأسفلتي متعرجاً بالشقوق، وذكرت المصادر أن هذه التشققات تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة.
قلق النرويج وإيرلندا وأميركا
تسببت المخاوف إزاء السلامة في “سيلافيلد” بتوترات دبلوماسية مع دول من بينها الولايات المتحدة والنرويج وإيرلندا، في حين يشعر المسؤولون النرويجيون بالقلق من أن وقوع حادثة في الموقع يمكن أن يؤدي إلى عمود من الجسيمات المشعة التي تحملها الرياح الجنوبية الغربية السائدة عبر بحر الشمال، مع عواقب مدمرة محتملة على إنتاج الغذاء والحياة البرية في النرويج، وكان التلوث الإشعاعي الناتج من حريق” ويندسكيل” عام 1957 وصل إلى شواطئ النرويج.
وفي 2006 حاولت الحكومة الإيرلندية اتخاذ إجراءات ضد “سيلافيلد” من خلال إحالته إلى محكمة تابعة للأمم المتحدة بسبب مخاوف من تأثيره في البيئة.
وحذر تقرير للاتحاد الأوروبي عام 2001 من أن وقوع حادثة في “سيلافيلد” قد يكون أسوأ من كارثة تشيرنوبيل، موقع كارثة عام 1986 في أوكرانيا والتي عرضت 5 ملايين أوروبي للإشعاع، لافتاً إلى أن المشكلات التي يمكن أن تؤدي إلى إطلاق نفايات مشعة في الغلاف الجوي في المحطة تشمل انفجارات وحوادث جوية.
وتعد السلامة من الحرائق هي مجال الاهتمام الرئيس، فكشف تحقيق الصحيفة عن وثيقة داخلية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، تحذر من “الخطر التراكمي” الذي تشكله الإخفاقات في مجموعة من المجالات، من السلامة النووية إلى إدارة الأخطار الناجمة عن الحرائق والأسبستوس.
وقال أحد كبار موظفي “سيلافيلد” لصحيفة “ذا غارديان” إنهم “لا يستطيعون التعامل مع الحرائق أو الأسبستوس في الموقع، ناهيك عن تفتيت مواد الاحتواء النووي”.
وفي ما يتعلق بالاختراق، قالت المصادر إن المدى الكامل لأي فقدان للبيانات وأي أخطار مستمرة على الأنظمة أصبح من الصعب قياسها بسبب فشل “سيلافيلد” في تنبيه المنظمين النوويين لأعوام عدة.
وبالنسبة إلى الصومعة المتسربة، ذكر تقرير صادر عن المكتب الوطني للأبحاث في يونيو (حزيران) الماضي أن خطر التسرب اعتبرته شركة “سيلافيلد” منخفضاً قدر الإمكان عملياً، لكن العلماء الذين تحدثوا إلى الصحيفة يشعرون بقلق متزايد من النطاق الكامل للتسرب، في حين أن إمكان أن يؤدي إلى تلويث المياه الجوفية لا يزال غير واضح.
رد الحكومة البريطانية
من جانبها كتبت وزيرة الدولة لأمن الطاقة وصافي الانبعاثات الكربونية كلير كوتينيو إلى الرئيس التنفيذي لهيئة وقف التشغيل النووي ديفيد بيتي، قائلة إن ما كشفت عنه الصحيفة حول الإخفاقات في الأمن السيبراني يحتاج إلى “اهتمام عاجل”.
وأضافت أن “هذه الادعاءات هي تذكير مقلق بالطبيعة الطويلة الأمد لبعض هذه القضايا، تحديداً الأمن السيبراني في (سيلافيلد)”. وفي ما يتعلق بالبرك السامة، أردفت أنها طلبت أيضاً “إبلاغها بالجهود المبذولة لزيادة وتيرة هذا العمل”.
وقال المركز الوطني للأمن السيبراني التابع للحكومة البريطانية “لقد حذرنا من التهديد السيبراني الدائم والكبير للبنية التحتية الوطنية الحيوية في بريطانيا لبعض الوقت، بما في ذلك في مراجعتنا السنوية الأخيرة”.
وتابع المركز “نحن نعمل بصورة وثيقة مع جميع مجالات البنية التحتية الوطنية الحيوية في البلاد ونتعاون مع المنظمات لتسليط الضوء على مشهد التهديدات وأنشطة التخفيف كجزء من عملياتنا الروتينية”.
ثقة الموقع
وقالت شركة “سيلافيلد” التي تدير الموقع النووي إنها “تعمل بصورة وثيقة مع الجهة التنظيمية لدينا في شأن الأمن السيبراني”، مضيفة على لسان متحدث باسمها أنه “نتيجة للتقدم الذي أحرزناه، لدينا طريق متفق عليه للتنحي عن التنظيم المعزز بشكل كبير”.
وقبل النشر، رفضت شركة “سيلافيلد” وكذلك مكتب التنظيم النووي “أو إن آر”، الإجابة عن عدد من الأسئلة المحددة حول الأمن السيبراني أو القول ما إذا كانت شبكات الموقع قد تعرضت للاختراق من قبل مجموعات مرتبطة بروسيا والصين.
وبعد النشر، ذكروا أنه ليست لديهم سجلات تشير إلى أن شبكات “سيلافيلد” تعرضت لهجوم ناجح من قبل جهات حكومية بالطريقة التي وصفتها الصحيفة، وأضافت الشركة أيضاً أنها تتمتع “بدرجة عالية من الثقة بعدم وجود مثل هذه البرامج الضارة في نظامنا”.
في ما يتعلق بتسرب الصومعة، من المفهوم أن “سيلافيلد” تعتبر أنه لا يشكل “أي خطر إضافي” على الموظفين والجمهور، وأردف المتحدث “نحن فخورون بسجل السلامة لدينا في (سيلافيلد) ونسعى دائماً إلى التحسين”.
وتابع أن “طبيعة موقعنا تعني أنه حتى نكمل مهمتنا، فإن مرافقنا الأكثر خطورة ستشكل دائماً خطراً”، منوهاً إلى قيامهم “باستمرار بقياس السلامة النووية والإشعاعية والتقليدية والإبلاغ عنها”.