بقلم: محمد الراوي
الشرق اليوم– في أكتوبر 2023، أنهى قرار المحكمة الاتحادية العليا باستبعاد رئيس المجلس النواب محمد الحلبوسي من منصبه، واحدة من أخطر المراحل التي عاصرها العراق خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، مُحيداً بذلك مركز نفوذ سلبي في محافظة الأنبار والمجتمع السُني تنامى وتغذى على المتاجرة في كل ما يمكن بيعه وشراءه، إذ ظل حتى وقت قصير يحتكر تمثيلهم، مُحولاً نفسه إلى صنم جديد لا يجوز المساس به.
لقد عاصر العراق أحداثاً دراماتيكية، ما لبث أن تخلص من النظام البعثي، الذي أطاحت به القوات الأمريكية عام 2003، حتى دخلت البلاد وسط دوامة من العنف والفوضى، أفضت في نهاية المطاف إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وسيطرته على مناطق واسعة من العراق، مخلفاً على أنقاضه مدناً مدمرة، وآلاف القتلى والمهجرين.
لكن قضية العراق ومحافظة الأنبار لم تنته عند ذلك الحد؛ فعلى أنقاض داعش، اعتلى محمد الحلبوسي البالغ من العمر 43 عاماً رئاسة مجلس النواب، وهو أعلى منصب للمجتمع السني في البلاد، مستفيداً من بحث المجتمع السني عمن يمثله، وينوب عنه، ويتابع قضاياه، وقد قدم الحلبوسي الذي ينحدر من عشيرة صغيرة نسبياً في الفلوجة، نفسه بأنه المنقذ والمخلص لأهل السنة. لقد صعد بوعود كبيرة وأوهام عديدة، ليعيد مرحلة قديمة قد عاشها أهل العراق، تحت رحمة الشخصية النرجسية والديكتاتورية، وقلة الخبرة السياسية، بمؤهلات منخفضة.
اتبع الحلبوسي تكتيكات مدروسة في طريقه نحو الديكتاتورية، وخلافاً لما كان يعتقد، بأن النظام الدستوري في العراق، قد صُمم لمنع تكرار نموذج صدام حسين وحكمه، إلا أن الحلبوسي استطاع الالتفاف على النظام، وأنشأ سلطة مركبة ومعقدة من ثلاث طبقات، (طبقة الحزب، طبقة المجتمع السني، طبقة مجلس النواب). وإذا ما أخذنا كل واحدة من تلك الطبقات على حدا؛ يُمكننا استنتاج كم كان هذا الرجل خطراً على العراق ومكوناته.
في 2019، أسس الحلبوسي حزب (تقدم)، مستفيداً من منصبه الجديد في رئاسة مجلس النواب والذي تولاه عام 2018، لقد سعى بسلطته الجديدة إلى مأسسة نفوذه وقوته، فكان الحزب ذراعه للسيطرة على كامل محافظة الأنبار، وكما تُشير الشهادات لأبناء المحافظة فقد تغول حزب تقدم في مختلف مفاصل الحكم والإدارة في المحافظة، حتى أن جميع رؤساء الأقسام والدوائر الإدارية مثل التسجيل العقاري والنفط والمرور والأمن أصبح على رأسها قيادات في حزب تقدم.
وكما في الحالة النموذجية للأحزاب السلطوية، كثرت تهم الفساد للحزب ورئيسه، منها ما يتداول على المنصات المفتوحة ومنها ما تنظر به الجهات القضائية، وتهم تشتمل على تزوير سندات، واقتطاع أراض، وتلاعب في العقارات، وتوزيع عدد منها على شخصيات قيادية في الحزب دون وجه حق، ووفقاً لمصادر؛ فقد طالت الصفقات العقارية المشبوهة حوالي 40 ألف عقار، تقع أغلبها في منطقة (الوفاء) التي كان من المخطط إقامة مطار لمحافظة الأنبار فيها.
وما هو أكثر خطورة من ذلك؛ أن الحلبوسي وحزب تقدم، جمعوا ما بين توظيف المال الفاسد والمنافع السياسية والكسب غير المشروع لشراء الولاءات، وإسكات المعارضين وفي الدعايات الانتخابية، لقد تحدث العديد من أبناء الأنبار عن الغلو الكبير في الحملات الانتخابية لحزب تقدم، والتي يتخللها إغداق في الأموال والهدايا على شخصيات بارزة وعشائرية من أجل تأمين عمليات شراء أصوات.
لكن نهج الحلبوسي الأوسع تجاه محافظة الأنبار ظهر حتى قبل اعتلائه رئاسة البرلمان، فحين كان محافظاً للأنبار، أعاد هيكلة الدوائر الحكومية، وقام بتعيين أشخاص من المقربين منه عشائرياً وحزبياً أو ممن يؤكدون إخلاصهم الشخصي له، وكانوا بمثابة الدائرة التي تُدير وتنسق عمليات الفساد للحلبوسي، بمعنى أنهم واجهة لعمليات مشبوهة تطمس أي دليل يُدينه شخصياً. علاوة على ذلك؛ استفاد الحلبوسي من ضعف حكومتي عادل عبد المهدي التي أطاحت بها احتجاجات تشرين عام 2019، وحكومة مصطفى الكاظمي التي كانت مؤقتة ومكلفة بمهمة الإعداد لانتخابات مُبكرة، وسط موجة من الاضطرابات والعنف، ليتمكن من توسيع نفوذه في الأجهزة الأمنية والمناصب التنفيذية ذات الطابع الاقتصادي والأمني، عبر عمليات تعيين محسوبين عليه داخل تلك المؤسسات.
إن سنوات هيمنة الحلبوسي على المشهد السني، شهدت تراجعاً في أدوار الأحزاب السياسية الأخرى، والشخصيات غير الحزبية، وظل حزب تقدم الذي يمثله 43 نائبا في البرلمان، هو المسيطر في نتائج الانتخابات المحلية والبرلمانية، والأكثر تمثيلا للمجتمع السني.
وعليه؛ كان يهدف الحلبوسي إلى بناء مقومات مكتملة للديكتاتورية، من (الرمز والمكانة والزعامة) والتي لا يحق لغيره امتلاكها، ولنا أن نتخيل كيف خاطب الحلبوسي السياسي السني خميس الخنجر بالقول “سأعيدك إلى حجمك الحقيقي”، لكن الحفاظ على هذه الهالة لم يكن بالعمل والإنجاز، إذ لم يفي الحلبوسي بمعظم وعوده الانتخابية، منها (إعادة النظر في قانون مكافحة الإرهاب و قانون المساءلة والعدالة (اجتثاث البعث)، وإعادة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم مثل جرف الصخر وغيرها، والكشف عن مصير آلاف المغيبين قسرا من أبناء المحافظات السنية مثل الصقلاوية والكرمة مسقط رأس الحلبوسي، وإعادة النظر في تخصيصات الموازنة العامة للدولة العراقية لصالح مشاريع إعادة إعمار المدن السنية التي دمرت أثناء الحرب على تنظيم داعش بين عامي 2014 و2018).
وبذلك؛ ارتكزت هيمنة الحلبوسي ونفوذه على التخويف والترهيب، ويروي معارضوه، أن لديه دائرة أمنية خاصة تتولى مسؤولية مهمة ضرب وترهيب كل من يمسه بقول أو فعل، عبر إدخال الرهبة والخوف في نفوس اعدائه للحفاظ على سلطته. حتى أن البعض في الأنبار، يعتقدون بأن الحلبوسي تجاوز في قمعه صدام حسين، فالأخير لم يكن تهديده موجهاً سوى لمنتقدي الشأن السياسي، فيما ترهيب الحلبوسي شمل أولئك المنتقدين لجوانب المعيشة في محافظة الأنبار، سواء أكان إشارة إلى أوجه التقصير لدى البلديات أو الخدمات وهكذا.
بالرغم من كل ما سبق؛ فهناك تيار سني من شيوخ محافظة الأنبار، وتيار وطني عراقي، يرفض الحلبوسي، لسوء استخدامه سلطته، ويهدد بعض شيوخ الأنبار برفع دعاوى ضده لهذا السبب، وهناك معارضة كبيرة له بين أعضاء البرلمان ولحزب تقدم، كيف لا وقد مارس الحلبوسي في منصبه تفرد لا مثيل له، تجسد في أعقاب مناقشة قانون الانتخابات 2023، حيث استدعى الحلبوسي قوة عسكرية لإخراج النواب وتهديدهم، وإحالتهم إلى لجنة السلوك النيابي، بسبب اعتراضهم على قانون الانتخابات.
علاوة على ذلك؛ كان الحلبوسي أثناء رئاسته للبرلمان، يروج لمبدأ المقايضة بين المكاسب والمواقف، وبشكل يُتيح له جني المكاسب الشخصية مقابل تغيير مواقفه السياسية، أو الدفع ببعض النواب لتغيير مواقفهم السياسية أو توجهات تصويتهم في المجلس مقابل منحهم امتيازات معينة. إن هذه النماذج الدكتاتورية تعطي انطباعا مشوها للعالم بأن العراق لا يزال يُعاني من التفرد بالقرار واستغلال المنصب.
ويخطئ من يركن إلى قرار المحكمة الاتحادية بزوال الرجل، فإن تهديده لم ينته، بل يزداد خطراً، خاصة أن عدة مصادر تحدثت عن تأسيسه لمجاميع مسلحة في الأنبار وتقريب شخصيات لها ارتباطات بالإرهاب لتنفيذ مشاريعه، وأن أموال وأسلحة كبيرة تدخل الأنبار عن طريق شخصيات متنفذة لها صلة برئيس البرلمان محمد الحلبوسي. وفي الواقع؛ فإن ما أراد الحلبوسي تحقيقه عبر بوابة السياسة، يتمثل في إحياء تقسيم العراق وتأسيس إقليمه الذي يحكمه، ولهذا مارس سلطته المطلقة في البيت السني، وسعى لإيقاع فتنة داخل البيت الشيعي، وما عجزت عنه السياسية قد يحاول تحقيقه بالفوضى.
وأخيراً، فإذا كان يُمكن أن نلحظ أي تأثير للحلبوسي في العملية السياسية العراقية منذ ظهوره وصعوده، فنجده يتمثل في محاولته تغيير قواعد اللعبة السياسية خاصة بين السنة، من التنافس السياسي إلى الصراع الصفري، القائم على احتكار الزعامة، والمال والنفوذ وتعظيمها.