الشرق اليوم– في منزلهم القديم الواقع في إحدى قرى مدينة الخليل الفلسطينية، يلتقي الدكتور عيسى خليل، كبير العلماء بمعهد قطر لبحوث الحوسبة التابع لجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر، كل صيف بوالدته وأشقائه القادمين من مختلف دول العالم، من أطباء وعلماء، والذين رغم هجرتهم منذ وقت طويل لمتابعة مسارهم العلمي، ورغم التحديات التي واجهتهم، حققوا إنجازات عديدة في مجالاتهم، ورغم غيابهم لسنوات عن وطنهم الأم، إلا أنهم لم ينسوا انتماءهم الأول إليه، وحرصهم على رد الجميل له.
تلخص رحلة الدكتور خليل، الذي غادر بلدته الفلسطينية قبل عقود، واقع الكثير من العلماء العرب الذين اضطروا إلى مغادرة أوطانهم بحثًا عن فرص أفضل في أماكن أخرى، ومع ذلك ما زالوا يرغبون في الحفاظ على ارتباطهم بتراثهم.
ويتحدث الدكتور عيسى خليل، المتخصص في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، عن عامل محوري لفت انتباهه إلى قطر، ألا وهو التزام الدولة الكبير بالتقدم التكنولوجي، الذي يشمل مجالات مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. وقد أثارت حادثة تصيد احتيالي تعرض لها أحد المقربين له، شغفه بالذكاء الاصطناعي، وهو ما عزز اهتمامه بقطر.
ويقول الدكتور خليل: “تركز قطر على التحول الرقمي والابتكار، مما يخلق بيئة ملائمة لنمو مبادرات الذكاء الاصطناعي الموثوق؛ كما أن البنية التحتية القوية في قطر توفر أساسًا راسخًا لتنفيذ حلول الأمن السيبراني القائمة على الذكاء الاصطناعي”.
ويتابع: “نعمل في معهد قطر لبحوث الحوسبة على مشروع لمكافحة الجرائم الالكترونية، من بينها التصدي لمحاولات الاحتيال المالي عبر الهواتف المحمولة. ويظل السعي المستمر لصياغة أنظمة ذكاء اصطناعي شفافة لتحديد نقاط الضعف في الأمن السيبراني والتخفيف من حدتها في طليعة أولوياتنا.
يضيف: “نكثف جهودنا حاليًا من أجل إنشاء اتحاد يضم جميع أصحاب المصلحة المحليين العاملين في هذا المجال للحصول على فهم شامل لمنظومة الهجمات الاحتيالية وتوفير دفاعات منهجية.
في الآونة الأخيرة، تعاون علماء في معهد قطر لبحوث الحوسبة وعلماء من تركيا، بقيادة الدكتور خليل، في بناء منصة دفاع للأمن السيبراني تُعرف باسم” تحذير”، بدعم من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمجلس التركي للبحوث العلمية والتكنولوجية “توبيتاك”.
تستخدم هذه المنصة تقنيات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالتهديدات الأمنية ضد البنى التحتية الحيوية واكتشافها، مما يوفر إمكانات استخباراتية للتهديدات قابلة للتطوير لمواجهة الهجمات الإلكترونية وتوفير رؤى قابلة للتنفيذ.
في ذات السياق، قال الدكتور خليل: “كما أثمرت جهودنا عن تطوير واجهة موحدة تدمج أربع خدمات خلفية تتضمن فحص بروتوكول الإنترنت، واكتشاف أو توقع النطاقات الضارة، واكتشاف البرامج الضارة، ومراقبة النطاقات لحماية العلامة التجارية”.
وفقًا للدكتور خليل، فإن مجال الذكاء الاصطناعي يضطلع بدور كبير في تعزيز أمن المعلومات، ويحمل وعودًا هائلة لمنطقة العالم العربي. فهو يسمح بتعزيز البنية التحتية للأمن السيبراني، مما يضمن بيئة رقمية أكثر أمانًا، كما يحمي استثمار الثقة في الذكاء الاصطناعي لأمن المعلومات المصالح الاقتصادية للمنطقة، ويجذب الاستثمارات الأجنبية ويعزز نمو الأعمال التجارية من خلال التزامه بحماية الأصول الرقمية. علاوة على ذلك، يعزز الذكاء الاصطناعي اعتماد تقنيات الابتكار والتطور التكنولوجي في منطقة العالم العربي، مما يمهد الطريق لنمو الشركات الناشئة في مجال الأمن السيبراني والمؤسسات البحثية وتوفّر القوى العاملة المؤهلة.ويقول الدكتور خليل أنه باختيارنا لقطر كمركز للذكاء الاصطناعي الموثوق في مجال الأمن السيبراني، نستفيد من موقعها الاستراتيجي، والنظام البيئي المدعوم، والبنية التحتية القوية، والالتزام بالأمان، وكل هذا يساهم في مهمتنا لتطوير حلول فعالة ومبتكرة لمكافحة التهديدات السيبرانية وحماية الأصول الرقمية.
بدأت رحلة الدكتور عيسى خليل العلمية في فلسطين، حين أنشأ محتوى تعليمي عبر الانترنت لطلاب الجامعات، ثم أسس شركة تقنية لتقديم خدمات الانترنت. غير أن تداعيات أحداث الانتفاضة، جعلته يخسر كل شيء، مما اضطره للبحث عن فرص جديدة خارج وطنه. وسرعان ما حصل على منحة فولبرايت الدراسية المرموقة من الولايات المتحدة الأمريكية، لينتقل وأسرته لمتابعة الدكتوراه في جامعة بوردو.
مباشرة بعد تخرجه من جامعة بوردو، عُرض عليه منصب مدير البرامج في شركة مايكروسفت، لكنه عاد مرة أخرى للعمل كعميد لكلية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية في جامعة القدس المفتوحة، ومن ثم انتقل للعمل في جامعة الإمارات العربية المتحدة رئيسًا لقسم الأمن السيبراني في الجامعة؛ إثر ذلك، قرر الانتقال إلى قطر، مع أسرته، بعد زيارة أتاحت له الاطلاع على الفرص البحثية المتعددة التي تزخر بها الدولة.
في هذا الصدد، يقول الدكتور خليل: “إن الأهمية التي توليها قطر للعلوم، وبنيتها التحتية المتطورة، وبيئتها الحاضنة، بالإضافة إلى وجود جامعات ومؤسسات بحثية عالمية، تركت انطباعا قويًا لديّ، على الرغم من أنني تلقيت عروضًا من الولايات المتحدة الأمريكية في تلك المرحلة، كانت هذه العناصر هي التي شجعتني على اختيار البقاء هنا”.
لعب العنصر الثقافي والتعليمي في قطر دورًا كبيرًا في انحياز الأسرة للبقاء في الوطن العربي، حيث يوضح الدكتور خليل: “إنها البيئة المثالية لأفراد أسرتنا، حيث يمكنهم تعزيز لغتهم العربية وتبني القيم الإسلامية، وفي الوقت نفسه، الاستفادة من بيئة تتميز بنظام تعليمي عالي الجودة.”
كما أتاحت العودة إلى المنطقة العربية للدكتور خليل الفرصة للمساهمة في مجتمعه الفلسطيني. حيث قدم لهم التوجيه طوال سعيهم للحصول على التعليم المتقدم وفرص العمل. بالإضافة إلى ذلك، يشارك في المحاضرات والعروض التقديمية في العديد من ورش العمل حول الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي التي تعقد في وطنه والدول العربية الأخرى.
ويشير الدكتور عيسى خليل إلى أن المواهب العلمية العربية يمكن أن تضطلع بدور حاسم في تغيير شكل الاقتصاد العالمي لو تم توجيهها ودعمها بالشكل الصحيح، إذْ من شأنها أن تسهم في تطوير الصناعات الجديدة وتعزيز ريادة الأعمال، مشددًا على أهمية “معالجة هجرة العقول وتعزيز الروابط بين العلماء العرب وبين منطقتهم”.
ويرى الدكتور خليل أن العلماء العرب الذين غادروا المنطقة يجب أن يفكروا جديًا في العودة، حيث إن ثقافة البحث والفرص في بُعدها المحلي تشهد تحولات إيجابية، قائلًا:” من خلال التواجد في المنطقة، يمكن المساهمة في هذه التحولات، مع متابعة المساعي العلمية في الخارج، كما ستتاح للعلماء فرصة تربية أطفالهم وسط ثقافة عربية والاستفادة من التطورات والفرص الناشئة في المنطقة”.
المصدر: نقطة المجتمع العلمي العربي