بقلم: فاروق يوسف – النهار العربي
الشرق اليوم– إذا قيل لك إنّ صفتي “عراقي” و”مستقل” لا تلتقيان في موقع واحد، فعليك أن تصدّق. لا لأنّه لا يوجد عراقي مستقل بمعنى ألّا يكون حزبياً، بل لأنّ العراقي لا يرى في العراقي الآخر إمكان أن يكون مستقلاً ولا يقبل أن يكون كذلك. تلك مشكلة تاريخية عبّر عنها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بمقولته “العراقيون بعثيون حتى وإن لم ينتموا”.
كان عراقيو الداخل (بحسب التصنيف الجغرافي الذي لا يزال سائداً حتى الآن) يضحكون في سرّهم من انتمائهم إلى الحزب من غير أن يعلموا. في المقابل كان عراقيو الخارج ومعظمهم ينتمي إلى الحزب الشيوعي والأحزاب الدينية، قد صدّقوا تلك المقولة وصاروا يتعاملون مع الواقع على أساسها، فصاروا يعتبرون كل عراقي لم يغادر العراق في زمن البعث بعثياً إذا لم يكن رجل أمن.
في زمن الحصار الدولي الذي فُرض على العراق بدءاً من منتصف عام 1990، غادر الكثير من العراقيين بلدهم رغبة في تحسين أوضاعهم المعيشية، غير أنّهم عانوا من عمليات عزل وإقصاء مارسها عليهم عراقيون سبقوهم إلى المهجر، وكانت الوشايات التي لا تستند إلى وقائع موثقة هي المصدر الذي يستقي منه ذلك السلوك العدواني صدقيته. لم يكن ذلك الوضع انعكاساً لخفّة التفكير السياسي العراقي، وهو مرض مزمن بسبب غياب الحياة السياسية المستقرة، بل إنّ حزبيي العراق لم يكونوا أفضل حالاً من صدام حسين حين يتعلق الأمر بالقوالب العقائدية الجاهزة التي يجب أن تضمّ الجميع من غير استثناء. كانت “القطيعية” ولا تزال هي جوهر التفكير السياسي وليست مجرد شكل خارجي، يمكن أن يفلت منه البعض تعففاً ونزاهة ويرفضه البعض الآخر، كونه لا يتلاءم مع طريقته في النظر إلى الحياة.
جوهر التدمير الذاتي
وإذا ما عدنا إلى التاريخ السياسي في العراق، فإنّ حفلة القتل التي بدأت عام 1958 مع إعلان انتقال العراق من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري ولم تنته حتى اللحظة، كانت تجسيداً لسطوة التحزب على العقل الجمعي العراقي. وكما يبدو، فإنّ العراقي مستعد بطبيعته للتحزب، وهي صفة استثمرتها الأحزاب في نشاطها الانتقامي الذي كان أساسه حزبياً وليس وطنياً. فعبر أكثر من ستين سنة لم يُحكم بالإعدام على عراقي خان وطنه. أما عشرات الألوف ممَّن قُتلوا فقد ذهبوا ضحايا عمليات انتقام الأحزاب، بعضها من البعض الآخر. بعد عام 1958 كان الشيوعيون يرقصون في شوارع بغداد وهم يلوّحون بحبال الشنق وكان ذلك تمهيداً لمجازر ارتكبوها في حق أبرياء بتهم انتمائهم إلى الأحزاب القومية. أما حين استولى حزب البعث على الحكم عام 1963 فقد فعل العجب من أجل الاقتصاص من الشيوعيين. وما يؤكّد أنّ الميل إلى التحزب كان جوهر التدمير الذاتي للحياة السياسية في العراق، أنّ المرحلة التي انقلب فيها عبد السلام محمد عارف وتسلّم الحكم بعد مقتله أخوه عبد الرحمن محمد عارف، والتي استمرت ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 1963 وتموز (يوليو) 1968، كانت موضع تندر واستخفاف بالنسبة إلى العراقيين. لقد حكموا على الدولة يومها بالضعف لأنّها لم تكن تمارس العنف لأسباب حزبية. لا عبد السلام ولا أخوه عبد الرحمن كانا حزبيين بقدر ما كانا مؤمنين بالخطوط العامة للاشتراكية كما طرحها جمال عبد الناصر، بالرغم من أنّهما تركا السوق حرّة ولم يشركا الدولة فيها. كانت سنوات من غير قتل.
أما الوطن فقد كان مؤجّلاً
ما أكثر ما قتل العراقيون بعضهم البعض الآخر لأسباب عقائدية لا صلة لها بالدفاع عن الوطن. في كل المجازر الحزبية لم يكن الوطن حاضراً. يمكنني أن أقول إنّ مسألة الوطن كانت مؤجّلة إلى حين تنهي الأحزاب عمليات انتقامها. وهو ما بدا جلياً من خلال قانون اجتثاث البعث الذي تبنّته الأحزاب الشيعية وأصدره الحاكم المدني الأميركي بعد الاحتلال بول بريمر. كان العنوان “جئنا لننتقم”، وهو ما عبّر عنه بصريح العبارة محمود المشهداني الرئيس الأسبق لمجلس النواب العراقي. وحين يفوق عدد المعتقلين لأسباب سياسية الستين ألف معتقل من غير أن يُحاكموا، فإنّ ذلك يعيدنا إلى دورة العنف التي اتخذت هذه المرّة طابعاً طائفياً، غير أنّها في الجوهر تستمد قوتها من رؤية حزبية معتقة. فالأحزاب التي جلبها المحتل الأميركي معه ليسلّمها الحكم، لا ترى في مَن يقاوم ذلك المحتل إلاً بعثياً. ثمة إنكار واضح لمسألة الوطنية.
الخلاصة أنّ ثمة أحزاباً تتقاتل في ما بينها. خلاصة تبسيطية دمّر العراقيون من خلالها تاريخهم الوطني وخلطوا الأوراق وخلقوا متاهة ضياعهم.
الشبهات قبل كل شيء
أن تكون مستقلاً في العراق فذلك معناه أنك وضعت نفسك في دائرة الشبهات. وستكون بمثابة الشخص الذي حكم على نفسه بالعزل والإقصاء. ففي مواجهة روح التحزّب لا تهمّ الأفكار بقدر ما يهمّ الانتساب إلى القطيع، سواءً كان ذلك الانتساب قبلياً وقد اتخذ طابعاً طائفياً، أم عقائدياً وقد دخل في نطاق الحزبية الضيّقة. كان المطلوب أن يحتمي المرء بجدار يقيه هجمات الآخرين إن اختلف معهم. ولطالما أحاطت الشكوك ببعثيين أو شيوعيين كانوا قد عبّروا عن آرائهم بطريقة محايدة تكشف عن استقلالهم عن الجماعة. يصح ذلك طائفياً حين تحوّلت الطوائف إلى متاهات حزبية، يتحكّم بدروبها المسلحون. فـ”الشيعي” على سبيل المثال، يمكن أن يقع في دائرة الريبة إذا لم يرفع شعارات طائفية، يكشف من خلالها عن انتمائه إلى حزب بعينه. بمعنى أنّ التحزب هو الأساس، وبعد ذلك تأتي الآراء والأفكار.
على ذلك الأساس بُني تاريخ العراق عبر الستين سنة الماضية. وهو تاريخ تشتبك فيه السياسة بالثقافة بطريقة سلطوية ممنهجة.