بقلم: أحمد الشيخ- الجزيرة
الشرق اليوم– ويسقط يورغن هابرماس مذعورًا، كما سقط غيره من كبار المثقفين والفلاسفة عبر التاريخ حين انسلخوا عن كل ما بشّروا به من مبادئ وقيم تشدقوا بها في كتبهم ومحاضراتهم، ورددها المبهورون بهم حتى أصبحت في مصاف الكتب السماوية، لا يخرج عنها إلا هالك ولا يتنكّبها إلا جاهل.
أصدر يورغن هابرماس- ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السياسية، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، والأستاذ كلاوس غونتر- بيانًا حول ما يجري في قطاع غزة، أدانوا فيه “المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام”.
أنا لا أريد أن أجادلَ في المكانة العلميّة والمعرفية ليورغن هابرماس الذي يقول كثيرون: إنه غدا -بما بلغه من علم في الفلسفة وعلم الاجتماع- بمثابة ضمير ألمانيا الحديثة، فلست قادرًا على ذلك تخصصًا ولا علمًا، ولا يليق بي أن أتطاول عما تقصر باعي عن بلوغه.
يقول هابرماس، ومن معه في بيانهم: “إنّ الوضع الحالي الذي تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، وردّ فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية”.
فوقية الغرب
ولنتوقّف عند عبارة: “المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية”؛ لنسأل الفيلسوف- الذي يكاد يناهز المئة من السنين- عما إذا كان فهمه وتعريفه للأخلاق هنا يتّفق مع أركان فلسفته العلمية النقدية، التي تطالب بالتجرد في بحث كل المواقف والمسائل والقضايا بحثًا دقيقًا يشمل كل الأطراف، ويغطي الامتداد الزمني من دون انحياز لطرف على حساب آخر؟
لقد قفزَ هابرماس وصحبه في الزمن ليعظنا ويقول: “إن هناك بعض المبادئ التي يجب ألا تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساسًا لتضامن مُفَكَّرٍ فيه ومُتَعَقَّلٍ مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا.”
فهي إذن -يا كبير فلاسفة الزمان- مبادئ يجب ألا تكون محل خلاف، في ألمانيا على الأقل، كما يوحي البيان بنصه الكامل. وأين هذا من مبادئ الفلسفة النقدية الاجتماعية التي اشبعتنا بها في كتبك؟ أين الشمولية النقدية البحثية؟ وأين الدعوة للحرص على تمثيل كل وجهات النظر، وبحثها باستفاضة قبل صدور أي حكم أو تقويم؟
وهنا يثور السؤال: هل يحق أو يجوز للعالم أن يفرض على كل العقول ألا تبحث في هذا الأمر أو ذاك، وتبحث في غيره مما يراه هو؟ هذا هو الكِبْر بعينه، كِبْر العالِم حين تضل بوصلته الأخلاقية، وحين يحاول ستر جُبْنه بشجاعة رِعْديد يرتجف من ماضٍ مخجل، أو إثم يحيك في نفسه.
لقد مارس الغرب وعلماؤه هذه الفوقية المتعالية قديمًا وحديثًا، فلا غرابة أن يوجبها اليوم أربعة من كُبَراءِ فلاسفتهم وعلمائهم على الألمان جميعًا، بل على العالم أجمع.
الامتداد التاريخي للقضية
قفز هابرماس، ومن معه في الزمن، وتجاهلوا الامتداد التاريخي للقضية الفلسطينية، وكأنه ليس هناك احتلال لفلسطين جلبه الغرب منذ 75 عامًا، فلا حقّ، في معاجمهم ومفاهيمهم، لمن احتُلَّت أرضه في الدفاع عنها، والسعي إلى تحريرِها، طال الزمان أمْ قَصُر.
ولا يخفي هابرماس، ومن وقعوا معه، دافعهم للدفاع عن إسرائيل وتبرير جرائمها في غزّة، فهو ليس إلا الخوف من الاتّهام بمعاداة السامية، ويقولون في بيانهم: “فالروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، والتي تقوم على أساس الاعتراف بالكرامة الإنسانية، ترتبط بثقافة سياسية تعتبر الحياة اليهودية، وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين يستحقان حماية خاصة، مع استحضار الجرائم الجماعية التي ارتكبت سابقًا في الحقبة النازية”.
إذن، فالنازية هي التي ارتكبت فظائع المحرقة في أفران الغاز ومعسكرات التعذيب، في البلدان التي احتلتها ألمانيا النازية، وليس في فلسطين وغزة. وقد كان يورغن هابرماس -عندما اجتاحت القوات النازية أوروبا عام 1939- صبيًا في العاشرة من العمر، ولو لم تنهزم ألمانيا في الحرب، ربما أصبح هابرماس عضوًا في الحزب النازي، كما كان كارل شميت، صاحب “اللاهوت السياسي.”
لكن النازية ارتكبت فظائع أخرى غير المحرقة. ويكفينا، مثالًا على ذلك أن أكثر من 20 مليون إنسان قتلوا في روسيا بنيران الألمان في الحرب العالمية الثانية. أولا ينبغي إذن ليورغن وصحبه أن يستحضروا تلك الجرائم الجماعية غير المسبوقة ويجدوا مسوغًا لما تقوم به القوات الروسية في أوكرانيا، حتى لا يتمدد حلف الناتو -وألمانيا عضو فيه- إلى حدود روسيا؟ مع أني لا أدافع عن روسيا التي ترتكب اليوم جرائم بشعة في سوريا.
ولو أن للغرب المتغطرس ضميرًا لاستحضر فظائعه بحق اليهود عبر القرون، وتذكر أن معازلهم كانت في العواصم والمدن الأوروبية، وليس في فلسطين وبلاد المسلمين. ولو أن الغرب يحترم الكرامة الإنسانية، التي تحدث عنها هابرماس وجماعته لاستحضر على الدوام، جرائم الإبادات العرقية التي ارتكبها الرجل الأبيض في العالم الجديد غربًا، وفي أستراليا شرقًا! وقد لا تتسع كل موسوعات العالم لمثل هذه الأمثلة عن فظائع الغرب.
وحين يتجاهل هابرماس وصحبه -المتربعون على قمة الهرم العلمي والمعرفي في الغرب- دروسَ التاريخ، فذلك هو السقوط الأخلاقي بعينه، بإرادة من يسقط فيه إن شئت، أو رغمًا عنه. فكيف إن كان الساقطون أخلاقيًا هذه المرة، هم فئةً من كبار العلماء والمفكّرين في بلدانهم وثقافاتهم، يتنكرون لكل ما كتبوه وقالوه؛ خوفًا من تهمة معاداة السامية؟
لقد نجح المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، ومروجو تهمة معاداة السامية في ترويض المهزومين في ألمانيا واليابان، على وجه الخصوص، وها هو هابرماس وصحبه يقعون في أقفاص الاتهام الأخلاقي كالفرائس المغلوبة على أمرها.
لمثل هذا المصير يريد الغرب ويخطط لإيراد أمتنا، بدأ بغزة والضفة أولًا. فبالأمس دعا بنيامين نتنياهو لإحداث تغيير ثقافي جوهري في قطاع غزة بعد الحرب التي سقط فيها كيانه.
لكن أمتنا عصية على السقوط وفيها القرآن يتلى وصوت الأذان يرفع، واسألوا شعوبنا التي ترفض أن تنسى فلسطين وتقبل بإسرائيل. وإن سقط بعض منا في مهاوي التردي والفشل تنهض الأمة على أكتاف حفظة الكتاب وتستفيق على صوت الأذان، وهو ما لا يعرفه أو يدركه هابرماس وزمرته.