بقلم: محمد حسين أبو الحسن- النهار العربي
الشرق اليوم– في مفاجأة صادمة للعالم؛ طالب وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بمحو غزة من الوجود، من خلال ضربها بقنبلة ذرية، في أقوى اعتراف إسرائيلي حتى الآن بامتلاك أسلحة نووية. اعتراف ينقل تل أبيب من سياسة “الغموض النووي” التي انتهجتها عقوداً طويلة، منذ اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي، إلى “سياسة الردع”؛ لإجبار اللاعبين الكبار في الشرق الأوسط على “الرقص على الإيقاع الإسرائيلي”، ما يضع الجميع أمام خيارات أحلاها مر؛ أهلا بكم في الشرق الأوسط الجديد!
القنبلة الإسرائيلية
شرعت إسرائيل في ستينات القرن العشرين في إنشاء برنامجها النووي، بمساعدة فرنسية، بدءاً بمفاعل ديمونا، وانتهجت ما يعرف بسياسة الغموض النووي. لا تقول إنها تملك سلاحاً نووياً ولا تنفي ذلك، فهي تلتزم الصمت. وتشير تقديرات مختلفة إلى أن تل أبيب تمتلك نحو 400 رأس نووي، ما يجعل منها قوة نووية رئيسية في العالم – ناهيك عن قدراتها البيولوجية والكيميائية – مع ثماني دول أخرى تنفرد بامتلاك القنبلة الذرية، دون أن تسائلها القوى الكبرى عن مشروعية أسلحتها النووية، على غرار ما يجري مع إيران أو كوريا الشمالية.
دلائل كثيرة تكشفت عن أكبر سر معلن: حيازة إسرائيل ترسانة نووية؛ ففي عام 1986، كشف موردخاي فانونو الفني بمفاعل ديمونا لصحيفة “صنداي تايمز” البريطانية عن وثائق تؤكد امتلاك إسرائيل أسلحة نووية، ثم توالت التقارير الإعلامية والاستخبارية بشأن قدراتها النووية. نشرت صحيفة “الغارديان” البريطانية وثائق تخص حكومة الفصل العنصري السابقة في جنوب أفريقيا تؤكد أن تل أبيب حاولت عام 1975 بيع النظام العنصري قنابل ذرية، كما تشاركا في التجارب النووية، وتشير بعض الوثائق إلى أن غولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية هددت الولايات المتحدة بأنها ستلجأ إلى السلاح النووي ضد مصر، بعدما انهارت القوات الإسرائيلية في سيناء خلال حرب أكتوبر 1973، ما لم تقم أميركا بتزويد إسرائيل بجسر جوي من أحدث الأسلحة، وهو ما فعلته واشنطن. كما اعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت بامتلاك الأسلحة النووية، ثم تراجع واعتبر أنها “زلة لسان”.
تمتلك إسرائيل كل أسلحة الدمار الشامل: قنابل نووية وهيدروجينية وكيميائية وبيولوجية وغيرها، بأعيرة ومديات مختلفة، أيضاً تحوز وسائل إطلاقها وصولاً إلى الهدف، طائرات وغواصات وصواريخ، في دائرة نصف قطرها 6 آلاف كم، ما يجعل جميع الدول العربية والإسلامية في مرماها بكل سهولة. السلاح النووي أو “الخيار شمشون” قنبلة الدور السفلي أو الخيار الأخير، تستخدمها إسرائيل إذا استشعرت أن الهزيمة وشيكة، ووجودها في خطر.
من الغموض للردع
الدولة العبرية بكل ما تحوزه من وسائل القوة لديها نقطة ضعف خطيرة للغاية، أن الهزيمة الحقيقية عسكرياً، قد تكون الهزيمة الأخيرة لها، وبعدها يصبح وجودها محل شك، لذلك تعتبر السلاح النووي “رادعاً من أجل الحياة”؛ لذلك تنسب بعض التقارير والتسريبات الأميركية إلى المخابرات الإسرائيلية أنها شاركت في التخطيط لقتل الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي في الستينات؛ لأنه مارس ضغوطاً على إسرائيل لوقف برنامجها النووي، مقابل أن يعمل على عرقلة البرنامج النووي المصري، لكن تل أبيب طالبت بوقف “المصري” بينما استمرت هي في مساعيها النووية. وبالفعل وقعت واشنطن وتل أبيب – بعد مقتل كينيدي – اتفاق تفاهم تمتنع بموجبه أميركا عن الضغط على إسرائيل للكشف عن ترسانتها النووية أو لتوقيع معاهدة الحد من الانتشار النووي، ولا يزال سارياً حتى الآن، برغم أنه تتكشف كل يوم خفايا البرنامج النووي الإسرائيلي، وهو ما يثبت صحة ما قاله الكاتب الإسرائيلي المتخصص في الشؤون العسكرية أفنير كوهين، مؤلف كتاب “إسرائيل والقنبلة”: إن أميركا شريك فى سياسة الغموض النووي التي تطبقها إسرائيل. وهي ترفض في الوقت نفسه توقيع معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، أو السماح بالرقابة الدولية على مفاعلاتها.
هذا الغموض يحقق لإسرائيل مزايا عدة، منها: عدم إحراج حلفائها الأميركيين والأوروبيين ومساعيهم الدائمة لمنع الانتشار النووي بالشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل بالطبع، بمعنى عرقلة أي محاولة من جانب أي دولة بالمنطقة لامتلاك سلاح ردع استراتيجي؛ فقد دأبت إسرائيل على مهاجمة البرامج النووية للدول المجاورة بضربات استباقية، وفقاً لـ”مبدأ بيغن”؛ دمرت – بمباركة أميركية – المفاعل النووي العراقي عام 1981 والسوري عام 2007، وضغطت على ليبيا – بمعونة واشنطن – حتى تخلت عن برنامجها النووي في 2003.
لا تطمئن إسرائيل على المدى البعيد لحلفائها الدوليين، تخشى تغير مواقفهم في ظروف معينة؛ ومن ثمّ يجعلها سلاحها النووي متحررة من ضغوط الحلفاء في أوضاع غير مواتية، لكن فشل النظام العالمي في نزع “النووي الإسرائيلي”، دون فرض عقوبات عليها مثل الآخرين يضرب مصداقية النظام الدولي ويفضح عجزه.
وبرغم ذلك فإنه يبدو أن العالم بدأ يستشعر أخطار “النووي الإسرائيلي”؛ ففي 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، صوتت أغلبية الجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة مشروع قرار قدمته مصر، بدعم عربي، يطالب إسرائيل بالتخلص من أسلحتها النووية وإخضاع مفاعلاتها لسلطة الوكالة الدولية للطاقة الذرية… كما أن موجة الاستياء العالمية التي صاحبت تصريحات وزير التراث الإسرائيلي بإبادة غزة بقنبلة نووية، تبرز حجم الغضب والقلق الإقليمي والدولي، إزاء نتائج الوضعية الاحتكارية الإسرائيلية.
الرقص على الإيقاع الإسرائيلي
أدان البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية، في الرياض قبل أيام، التهديد بضرب غزة بالنووي، باعتباره تهديداً خطيراً للأمن والسلم الدوليين، وأشار البيان إلى ضرورة دعم جهود إخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي وجميع أسلحة الدمار الشامل، برعاية الأمم المتحدة. من جانبه، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط إن “اعتراف إسرائيل بامتلاك سلاح نووي، هو سر يعرفه الجميع”. وشدد رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي على أن اعتراف إسرائيل بحيازة أسلحة نووية تحد لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وأضاف: “حان الوقت لكي تخرج المنظمات الدولية عن صمتها أمام هذا التهديد الخطير للسلم والأمن الدوليين”.
وأكدت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا أن التهديد بضرب غزة المحاصرة والفقيرة بقنبلة نووية يطرح أسئلة بشأن السلاح النووي الإسرائيلي، وأضافت: “أين الجميع؟ أين المنظمات الدولية؟ أين الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟ أين المفتشون؟… إن تصريح الوزير الإسرائيلي يسلط الضوء على سبب رفض بلاده وجود شرق أوسط خال من الأسلحة النووية”. واتهمت زاخاروفا الولايات المتحدة بأنها “أسهمت بكل طريقة في وجود هذه الأسلحة في إسرائيل”.
ينطوي البرنامج النووي الإسرائيلي على مخاطر محلية (على غرار حادثة تشرنوبيل)، وإقليمية ودولية. احتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة، يهدد المصالح الاستراتيجية لبقية الأطراف ووجودهم، لذا يشعر بقية اللاعبين الكبار في المنطقة بقلق شديد وتهديد واضح. من أجل ذلك تقترب إيران من إنتاج القنبلة، بينما تسعى السعودية والإمارات ومصر وتركيا لامتلاك برامج نووية سلمية لإنتاج الطاقة؛ قد تتسارع وتيرة هذه البرامج مع تصريحات الوزير الإسرائيلي التي كشفت رسمياً امتلاك بلاده أسلحة نووية.
المفارقة أن يكون الجميع “يرقص على إيقاع تل أبيب”. يصعب أن يكون تصريح وزير التراث الإسرائيلي عفوياً أو زلة لسان، بل هو أمر مخطط له بعناية؛ للتخلي عن “سياسة الغموض النووي” والانتقال إلى “سياسة الردع” بالإعلان عن ملكية السلاح الذري، في مواجهة إيران وأي طرف آخر بالمنطقة، وأنها يمكن أن تستخدمه إذا تطلب الأمر، ومن ثمّ إجبار الجميع على الانصياع لمطالبها، وسبق أن نشر رؤوفين بداتسور المحلل السياسي بصحيفة “هآرتس”، في 28/5/2013 دراسة أميركية تقترح تخلي إسرائيل عن “الغموض النووي”، لردع إيران عن التزود بالقنبلة الذرية؛ حال فشل مساعي واشنطن في ذلك.
للقصة فصول أخرى!