بقلم: ماجد كيالي- النهار العربي
الشرق اليوم– في أسبوعين من حربها الوحشية على غزة، استباحت إسرائيل البشر والشجر والحجر، بالقصف من الجو والبر والبحر، بالصواريخ والمدفعية والقنابل الفراغية والبوارج الحربية، فقتلت نحو أربعة آلاف من الفلسطينيين، وأصابت عشرة آلاف منهم بجراح متفاوتة، ودمرت ما يقارب ربع أحياء مدن القطاع ومخيماته، وشردت مليون فلسطيني من بيوتهم.
ولعل أكثر ما يبين وحشية إسرائيل في تلك الحرب أن عدد ضحاياها بات ضعف عدد الذين قتلتهم في الحرب الثالثة التي شنتها على غزة عام 2014، والتي استمرت خمسين يوماً، وأنها ذهبت إلى حد قطع الماء والكهرباء والدواء والوقود والغذاء عن مليوني فلسطيني، كانوا يعانون الحصار طوال 16 عاماً، وكل ذلك بتغطية من الولايات المتحدة والدول الغربية، وإنها وجدت في تلك الحرب فرصة سانحة لتكملة تصفية حسابها مع الفلسطينيين، في استعادة لحظة النكبة عام 1948، وفي سعيها المستمر لإخضاعهم أو لإزاحتهم من المكان والزمان، والإجهاز على قضيتهم نهائياً.
في المقابل، فإن تلك الحرب بينت أن “حماس”، وهي سلطة في غزة، ورغم استعدادها الجدي لمعركة كهذه، بالقياس للتجارب السابقة، ونجاحها المثير للإعجاب في مباغتتها إسرائيل، وتكبيدها خسائر فادحة، غير مسبوقة في تاريخها، لم تحسب جيداً لجهة تهيئة مجتمعها لردود الفعل الإسرائيلية، ولا لجهة تحديد العنوان السياسي المناسب لتلك المعركة.
هكذا، فإن خطاب محمد الضيف، القائد العسكري لكتائب القسام، في أول يوم للمعركة (7/10)، أشاع بأن المعركة الدائرة هي لتحرير فلسطين، وأشفعها بمطالبته كل الفلسطينيين، في 48، والقدس الشرقية، والضفة، بالانخراط فيها، ناهيك بمطالبته الأمتين العربية والإسلامية بدعم ذلك، ما يذكّر بخطابات بعض قياديي الحركة، عن زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، والتهديد بالمنازلة الكبرى، و بـ”وعد الآخرة”، بالقضاء على إسرائيل في ظرف أيام.
الفكرة هنا لا تتعلق بمشروعية هذا الطرح، أو منطقيته، بل تتعلق بمدى ملاءمته للإمكانات وللواقع، ما يدفع إلى التساؤل عن طبيعة إدراكات قيادة “حماس” المعطيات العربية والدولية، وموازين القوى، غير المواتية إطلاقاً، كما تبين خلال الأيام الماضية العصيبة. بل إن إدراكات تلك القيادة لحقيقة الواقع الفلسطيني بدت قاصرة، أو رغبوية؛ إذ تلك الدعوة إلى المنازلة لم تلق حداً أدنى من التجاوب، لا في الضفة ولا في القدس الشرقية، ولا في أوساط فلسطينيي 48، بالقياس إلى التجاوب الذي حصل إبان هبّة “الشيخ جراح” قبل عامين.
المشكلة ليست في إدراكات قيادة “حماس” وحدها، بل في نمط التفكير السياسي للقيادات الفلسطينية. مثلاً، فإن حركة “فتح” في مبادرتها لإطلاق الكفاح المسلح، استندت إلى مقولتها عن “التوريط الواعي”، إذ إن العمل الفدائي ضد إسرائيل سيستدرجها لمهاجمة الدول العربية، التي بدورها ستحرك جيوشها لمواجهة إسرائيل، وكلنا يعلم اليوم أن تلك المراهنة خاطئة، بل إن الكفاح المسلح الفلسطيني اصطدم مع أكثر من نظام عربي، أكثر مما اصطدم مع إسرائيل، واستنزف مجتمعات الفلسطينيين في الخارج، وأضعف مقاومتهم لإسرائيل.
الآن، تعيد “حماس” التجربة أو المراهنة ذاتيهما بمصطلحاتها، باستنادها في مبادرتها للمعركة إلى “معسكر المقاومة والممانعة”، وشعار “وحدة الساحات”، علماً أن ذلك المعسكر تلقى طوال سنوات ماضية ضربات إسرائيل من دون أن يرد عليها، فيما استمر في حربه ضد الشعب السوري، مثلاً. أما وحدة الساحات، فلم تظهر ولا مرة، لا إبان الانتفاضة الثانية، ولا إبان الحروب الإسرائيلية المتوالية على غزة (2008، 2012، 2014، 2018، 2021)، وهي لم تظهر طوال الأسبوعين الماضيين، رغم تشريد مليون من فلسطينيي غزة، وتدمير بناها التحتية، وقتل آلاف عدة من سكانها، ورغم التهديد بترانسفير جديد.
المسألة الثانية التي غابت أو لم تكن واضحة في ذهن قيادات “حماس” تكمن في الافتقاد لاستراتيجية كفاحية واضحة، وممكنة، في مقاومة إسرائيل، وهو أمر تتحمل مسؤوليته الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها، أيضاً، على رغم تجربة طويلة وغنية عمرها 58 عاماً.
المشكلة هنا تتمظهر في الخلط بين المقاومة والحرب، وحصر المقاومة بالعمل المسلح، على حساب المقاومة الشعبية، علماً أن المقاومة غير الحرب، جيشاً لجيش. هكذا كان ثمة خيار لخوض المعركة وفقاً لقواعد حرب الشعب، واضرب واهرب، وحرب الضعيف ضد القوي، باستهداف نقاط ضعف العدو، وتجنب نقاط قوته، وتحييد ما أمكن جيشه لا تسهيل استخدامه ترسانته العسكرية، وانتهاج عمليات تؤدي إلى تفكيك مجتمعه، أو تعزز التناقضات فيه، لا أن توحده، كما حصل في استهداف مدنيين، سبق لقيادات من “حماس”، على رأسها خالد مشعل، أكدت أن الحركة لا تستهدفهم، علماً أن المقاومة الناجعة للشعوب المستعمرة ضد القوة المستعمرة، هي المقاومة التي يمكن للشعب تحمل نتائجها، والتي تتسم بالديمومة، وتمكن من استنزاف مجتمع العدو، لا استنزاف مجتمعها، والتي تسمح باستثمار التضحيات والبطولات لا تبديدها، أو تكبيد شعبها أضعافها، المقاومة المتدرجة الطويلة الأمد لا حرب الضربة القاضية.
ثمة هنا استدعاء، من قبل بعض المهتمين، للتجربتين الجزائرية والفيتنامية، فمع كل التقدير للبطولات والتضحيات في التجربة الجزائرية، إلا أنها غير مكتوبة أو موثقة، وهي اشتغلت لفترة محدودة، فيما دام الاستعمار الفرنسي 132 سنة (1830 – 1962)، وقد اقتصرت المقاومة المسلحة على مرحلتين، الأولى عقب استعمار الجزائر واستمرت حتى عام 1847 (ثورة عبد القادر الجزائري)، والثانية استمرت عشرة أعوام تقريباً، منذ تأسيس جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1954)، وقد ساعدت الظروف العربية والدولية، وضمنها التغيرات في فرنسا، على استقلال الجزائر، مع تضافر الشرطين الذاتي والموضوعي، في تأمين الشرط الكافي للاستقلال، علماً أنها انطوت على حرب أهلية باهظة، وضمنها ارتدادات العنف في المجتمع الجزائري ذاته. أما التجربة الفيتنامية فقد استمرت في ظروف الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين، مع تلقيها الدعم من دولتين كبريين، بحجم الصين وروسيا، علماً أن فيتنام اليوم لها علاقات متميزة مع الولايات المتحدة الأميركية على حساب حليفيها السابقين.
في مقابل ذلك، ثمة تجربة الهند، أكبر مستعمرة في العالم، التي تحررت بفضل الكفاح الشعبي، وهو ما ينطبق على تجارب التحرر من الاستعمار في البلدان العربية، في مصر وسوريا ولبنان والمغرب وتونس، من دون أن يفهم من ذلك أن الفلسطينيين يمكن أن يتحرروا من إسرائيل بهذه الطريقة أو تلك، إذ القصد هنا هو ضرورة صوغ استراتيجية كفاحية موائمة للفلسطينيين، وملاحظة موازين القوى، والمعطيات العربية والدولية، كي تصب نضالات الفلسطينيين وتضحياتهم في منحى يقود إلى التمكين من تحقيق إنجازات سياسية متعينة، بدل العيش على العواطف والشعارات التي ثبت عدم جدواها.
المسألة الثالثة التي يمكن طرحها هنا تتعلق بكيفية تعامل الفصائل المسلحة مع مجتمعها، في الهيمنة عليه، وعدم تمكينه من إبداء رأيه في أي شيء، بمعنى أن المجموعة المهيمنة في قيادة “فتح” أو “حماس” هي التي تقرر مصير الشعب الفلسطيني. وإلى جانب عدم تهيئة “حماس” (كسلطة وكحكومة) لمجتمعها للحرب، فإنها طوال هيمنتها على قطاع غزة لم تقم بإيجاد إطارات تمثيلية مناسبة تمكن فلسطينيي غزة من المشاركة في القرارات، وفي صوغ الخيارات، وهي لم تقم حتى بإشراك الفصائل الحليفة لها بذلك. فوق ما تقدم فهي كانت تعامل مجتمعها بطريقة فوقية، وضمن ذلك فرض الضرائب الباهظة على فلسطينيي غزة الذين يعانون الفقر والبطالة والحصار وانعدام الفرص، فيما هؤلاء الفلسطينيون هم الذين دفعوا ويدفعون ثمن خيارات “حماس”، وهو أمر يفترض بالحركة الوطنية الفلسطينية ملاحظته، فهذا حصل في الأردن ولبنان، وفي فلسطين في الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، وهو أمر يتناقض مع فكرة الحرية التي هي جوهر العملية الوطنية الفلسطينية التي لا تتعلق فقط بتحرير الأرض، بل بالحرية والعدالة والكرامة لكل الفلسطينيين.
هذه ملاحظات أولية لحرب إسرائيل الوحشية على غزة، وهي حرب لم تنته، ولا أحد يعرف متى أو كيف ستنتهي، وما هي التداعيات والتحديات التي ستنشأ عنها، وهي مسائل طالما تحدثنا عنها قبل تلك الحرب المهولة، وتستحق قولها خلال الحرب، وبعدها، إذ الواقع أكثر هولاً وكارثية من مجرد توصيفه، والكتابة عنه.