بقلم: محمد حسين أبو الحسن- النهار العربي
الشرق اليوم– تشبه إسرائيل سمكة “الريمورا”، تلتصق ببطن “القرش” وتتغذى على فضلاته وبقايا طعامه، وتنتقل بحرية في المحيطات، آمنة من الوحوش؛ لأنها بصحبة المفترس الأكبر.
كانت بدايات الدولة العبرية مع وعد بلفور عندما كانت بريطانيا العظمى، وبإعلان الدولة عام 1948، حظيت باعتراف القوتين العظميين آنذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وحتى اليوم تظل إسرائيل الفتاة المدللة للغرب، تدعمها أميركا وأوروبا بالمال والسلاح والنفوذ، في حربها الغاشمة على غزة؛ وسعيها لـ”تغيير الشرق الأوسط”؛ ما يهدد بموجات غضب في العالمين العربي والإسلامي، وعودة الجماعات المتطرفة والإرهاب في كل مكان؛ وزعزعة استقرار العالم بشدة، مع أن الحل ممكن ومتاح!
شكراً لأميركا!
عندما تتابع تغطية وسائل الإعلام وتصريحات المسؤولين الأميركيين والأوروبيين لما يجري في غزة وما حولها يُهيأ إليك أنها تتحدث عن “شعب عائد من المنفى” إلى أرضه (إسرائيل)، وليس عن شعب نفي بالقوة خارج أرضه (الفلسطينيين)، أما العرب فهم يحاولون أن يمنعوا الشعب الإسرائيلي من العيش بسلام في وطن بنوه من لا شيء، في أرض لم يكن بها شعب… هذا “الحدب الغربي”، إن جاز الوصف، محيّر ومثير للأسى؛ لأنه مخالف لكل القيم والأخلاقيات والقانون الدولي.
تخيّل حجم “جرائم الحرب” التي ترتكبها إسرائيل كل دقيقة بحق أهالي غزة، من إبادة وتجويع وتهجير، بمباركة ودعم ومساندة غربية يندى لها جبين الإنسانية. قال بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي: “شكراً لأميركا لوقوفها معنا اليوم وغداً ودائماً”؛ تعقيباً على تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن المؤيدة بقوة للعدوان على غزة، وإرساله حاملة الطائرات الأضخم “جيرالد فورد” قبالة الشاطئ الإسرائيلي لإظهار “العين الحمراء” لأي طرف يتدخل عسكرياً لإنقاذ الفلسطينيين، في تناقض مع قيم الحرية وحقوق الإنسان التي تنادي بها واشنطن في سياساتها الخارجية، بل وتناقض مع المصلحة الأميركية المفترضة مع الدول العربية والإسلامية. لا غرابة، ذات مرة وصف بايدن نفسه بأنه “صهيوني”، وأنه لو لم تكن إسرائيل موجودة لوجب اختراعها؛ من ثمّ يمكن فهم لماذا يأتي بايدن إلى المنطقة داعماً المخطط الإسرائيلي- تسانده أوروبا أيضاً- لتصفية القضية إلى الأبد وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن إن أمكن.
الانحياز الأميركي السافر لإسرائيل ليس جديداً، بعد دقائق من إعلان تأسيس إسرائيل، في 14 أيار (مايو) 1948، اعترف الرئيس الأميركي هاري ترومان بالدولة الجديدة، وثمة مقولة كاشفة لإسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق: “الدعم الأميركي لبلادنا لا يمكن مقارنته بأي دعم آخر في التاريخ الحديث، نتلقى أكبر دعم عسكري واقتصادي أميركي بنحو 500 دولار لكل إسرائيلي سنوياً”. يختلف الساسة وصناع القرار في واشنطن بشأن كل الملفات تقريباً، لكنهم يتفقون غالباً على مؤازرة تل أبيب.
علاقة خاصة
العلاقة بين إسرائيل والغرب موضوع معقد؛ تقتدي حرب الإبادة التي تشنها الدولة اليهودية على الشعب الفلسطيني بحروب إفناء الشعوب الأصلية من الهنود الحمر وغيرهم في أميركا الشمالية والجنوبية؛ وتتنوع الأسباب الكامنة لعلاقة الغرب وإسرائيل بين الدوافع المصلحية والمادية والتاريخية المتعلقة بموروث الحقبة الاستعمارية وهوية الدولة الأميركية المسيحية البروتستانتية المتأثرة باليهودية، لدرجة بروز مصطلح “المسيحية الصهيونية” التي يؤمن أتباعها بضرورة إقامة كيان يهودي في فلسطين؛ تمهيداً للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه مملكة الألف عام، بالإضافة إلى دوافع أخرى استراتيجية وسياسية واقتصادية؛ على نحو ما أوضح الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه “اليهود واليهودية والصهيونية”.
وقد حاول الأميركيان ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، وجون ميرشايمر أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو، البحث عن سر العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. أشار والت إلى أن القول المعتاد بأن إسرائيل هي أحد الأصول الاستراتيجية الحيوية لأميركا، وأنهما تتشاركان القيم نفسها، لا يمكن أن يفسر كل هذا الدعم غير المشروط من الولايات المتحدة؛ منبهاً إلى أن هذا الدعم الأميركي لتل أبيب يعد أحد الأسباب الكامنة للإرهاب، وعبئاً استراتيجياً على أمن أميركا واستقرارها. وفي ما يتعلق بالقيم، فإن تعامل إسرائيل مع مواطنيها العرب والفلسطينيين بعنصرية يتناقض مع القيم الأميركية.
ويرجع والت الدعم الأميركي لتل أبيب إلى “اللوبي” الموالي لإسرائيل في أميركا، وهو تحالف فضفاض من أفراد وجماعات يعمل للتأثير على السياسة الأميركية لتأييد الدولة العبرية، ويضم المنظمات اليهودية الأميركية، مثل “أيباك” والمجموعات المسيحية الصهيونية، ويعمل هذا اللوبي في مسارين: التدخل في الانتخابات الأميركية المختلفة، بدعم مرشحين معينين وتسهيل وصولهم للمناصب الحكومية، أيضاً تقديم حوافز لهم لتنفيذ السياسات المطلوبة وسن التشريعات؛ لدرجة أن معظم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ يدركون أن أي محاولة للحد من الدعم الأميركي لإسرائيل هو “لعب بالنار”؛ يعرض فاعله لاتهام خطير هو “معاداة السامية”. بل إن الرئيس الأميركي جيمي كارتر راعي اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل لم يشفع له ذلك؛ عندما أصدر كتابه “فلسطين: السلام لا الفصل العنصري”، والذي أشار إلى أن قيام أي سياسي أميركي بانتقاد إسرائيل كمن ينتحر سياسياً، محذراً من استمرار الواقع الفلسطيني الراهن؛ فهاجمته جماعات الضغط الإسرائيلية مطالبة باعتذاره عما كتب.
غضب كبير
يطول نفوذ اللوبي الموالي لإسرائيل كل جوانب الحياة الأميركية الثقافية والإعلامية والعسكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية، وقد تقصى جون ميرشايمر التأثيرات السلبية لضغوط ذاك اللوبي على السياسة الخارجية الأميركية ومصالحها، وضرب مثلاً بتداعيات مناصرة أميركا الممارسات الوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة، إذ تفضي إلى غضب كبير في العالمين العربي والإسلامي؛ ما يغذي التطرف والإرهاب، موضحاً أن دعم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية وحماية إسرائيل من الإدانات الدولية باستخدام الفيتو وغيره، كان أحد أبرز دوافع منفذي هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، ويوضح أن اللوبي قاد دفة واشنطن إلى غزو العراق، وهو أحد أكبر الأخطاء الفادحة في التاريخ الأميركي.
وبرغم قوة نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، فإنه لم ينجح دوماً في الإمساك بزمام الأمور في البيت الأبيض، كما حدث عندما وقع الرئيس الأميركي باراك أوباما الاتفاق النووي مع إيران، وسعت إسرائيل بمساعدة اللوبي المناصر لها للوقوف في وجه الصفقة وتخريب الاتفاق، إلى درجة أن نتنياهو ذهب إلى الكونغرس متحدثاً ومتحدياً للرئيس الأميركي في عقر داره، وعندما خلفه دونالد ترامب بادر إلى تجميد الاتفاق بالفعل. كتب جيرارد بيكر مقالاً في صحيفة “التايمز” البريطانية ألمح فيه إلى تململ بعضهم في واشنطن من سطوة اللوبي، ودفعه أميركا والغرب للوقوف وراء العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين العزل، وأشار بيكر إلى الأغاني الاحتجاجية في الستينيات للفنان الأميركي بوب ديلان الحاصل على جائزة نوبل، وتصف إحداها إسرائيل بأنها “بلطجي الحي”، لافتاً إلى أنه برغم تفهم واشنطن دوافع المواقف الإسرائيلية، فإن الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي أصبح معادياً بشكل علني، ليس فقط لأفعال إسرائيلية معينة، ولكن، على ما يبدو، لإسرائيل نفسها، مبيناً أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في منح حكومة نتنياهو اليمينية المليارات سنوياً لارتكاب جرائم وفظائع ضد الفلسطينيين. من أجل ذلك دعا جون ميرشمايمر إلى أن تعامل أميركا إسرائيل بشكل طبيعي يراعي المصالح الوطنية الأميركية، ولا يعمق الخلل في التوازنات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
إن الضمانة الوحيدة لاستقرار المنطقة هي حصول الشعب الفلسطيني على جميع حقوقه المشروعة؛ أما تبجح نتنياهو بأنه سيغير “الشرق الأوسط” فهو بلطجة عمياء، تستند إلى شعور بالقوة؛ اعتماداً على أن إسرائيل تأوي إلى ركن الغرب الأميركي- الأوروبي؛ لكنه شعور يفيض بالغطرسة الزائفة، لأنه يغفل إرادة الشعوب وحيويتها؛ فحتى أسماك الريمورا تصبح أحياناً طعاماً للمفترسات وهي في حضن القرش!