بقلم: يوسف بدر- النهار العربي
الشرق اليوم– كانت عملية “طوفان الأقصى” نتيجة حتمية للحصار القاتل الذي عاشه قطاع غزة لسنوات، بشكل يشبه السجون المفتوحة، وكذلك وسط تجاهل الاحتلال الإسرائيلي لتقديم أي تنازلات للفلسطينيين في إطار مشروع حل الدولتين؛ بل على العكس كان يعمل على إفراغ القضية من محتواها عبر مزيد من تهويد القدس والاقتحامات المستفزة المتكررة واستمرار سياسة مصادرة الأراضي وهدم المنازل والتوسع بالمستوطنات التي تعد مخططاً لمسح السكان الفلسطينيين من الوجود.
أيضاً كان الاحتلال الإسرائيلي يتجاهل المساعي العربية والنداءات المستمرة لإيجاد حل شامل وثابت في ظل انشغال دول المنطقة بالتنمية ومواجهة التحديات الدولية، بخاصة أن هناك تحولات دائرة في موازين القوى الاقتصادية والسياسية في العالم، تُلزم إسرائيل الانتباه إلى أن ضمان استقرار مصالحها يحتاج إلى حل مشكلة الاحتلال أولاً؛ لكن واقعياً فإنها كانت تركز على الخارج أكثر؛ فقد ظنت أن الاتفاق الإبراهيمي مع دول عربية كفيل بأن يحقق لها الضمانات الأمنية والاقتصادية الداعمة لمستقبلها في المنطقة.
لذلك هي تعاملت بعدم جدية مع الشرط السعودي للانضمام إلى ذلك الاتفاق، ألا وهو القبول بمبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله بن عبد العزيز عام 2002، والتي نصت على إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانسحاب الإسرائيلي من هضبة الجولان المحتلة، مقابل الاعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.
كانت الحكومة السعودية ذكية في هذا الشرط؛ لأنها تدرك أن تطبيعها الرسمي مع إسرائيل سيفتح باب التطبيع لدول إسلامية أخرى، بما يضر بزعامتها داخل العالم الإسلامي، وكذلك فإن استقرار مصالحها الأمنية والاقتصادية مرهون بحل القضية الفلسطينية، وهذا ما لا تريد إسرائيل أن تعترف به، وكل ما تفعله هو وأدُ الداخل الفلسطيني وإخراسه عبر آلة القمع والتنكيل والتجويع والإفقار، حتى جاءت عملية “طوفان الأقصى” لتوجه صدمة مفزعة للإسرائيليين، ربما سيظل ينكرها قادة الحكومة الحالية وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو؛ لكن على مستوى الشارع، فإن المواطن الإسرائيلي أدرك أن حكوماته المتتالية لا يمكن أن تضمن له أمن دولته واستقرارها؛ لأن الحل لا يمكن تلخيصه في قتل قادة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” والاعتقالات المتكررة للفلسطينيين.
وإذا كانت حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 درساً لإسرائيل بخصوص نظريتها الأمنية الخارجية؛ كذلك ستكون عملية “طوفان الأقصى” درساً بخصوص أمنها الداخلي وفشل سياسة الردع التي انهارت أمام هذه العملية التي استلهمت خطتها تماماً من تلك المعركة المصرية، حيث عُنصر المفاجأة الذي تحقق على أساس خداع استراتيجي، وكذلك الاعتماد على خطط عسكرية منظمة تقوم على أساس تنظيم التعاون بين الأسلحة وفتح توقيتاتها.
توقيت في مصلحة إيران!
كان توقيت “طوفان الأقصى” في مصلحة إيران تماماً التي تحطمت أمامها هيبة إسرائيل، ولذلك كانت إسرائيل تبحث طوال الوقت عن خيط ضدها؛ للحفاظ على معادلة الردع الخارجية التي هي شاغلها الأول، وأن تثبت للعالم أن هناك مؤامرة خارجية ضد أمنها الداخلي، وأن المشكلة لا تكمن في سياستها الداخلية، بل في إيران محور الشر التي تدعم منظمة إرهابية تسمى “حماس”، كما ادعى الرئيس الإسرئيلي إسحاق هرتسوغ، قائلاً: “هناك محور شيطاني مقره إيران، يعمل وكلاؤه بلا كلل على إضعافنا!”. وما كرره وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت: “حماس تعد جزءاً من محور الشر مع إيران، وفكرة هجومها مصدرها إيران”.
لكن على الجانب الآخر، كانت القوى الغربية تدافع عن إيران! خشية أن تورطهم إسرائيل في مغامرة إقليمية قد تنسف مصالحهم وتزيد من معاناتهم بسبب الحرب الأوكرانية. ولذلك قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن: “رغم العلاقة الطويلة بين حماس وإيران؛ لكن لم نر دليلاً على أن إيران تقف وراء هجوم حماس”.
وتكرر هذا الكلام أيضاً على لسان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، والمستشار الألماني أولاف شولتس، مع الحفاظ على خيط العلاقة بين “حماس” وإيران.
إيران: ليس نحن!
اعتبرت طهران أن هذه التصريحات بمثابة إشارة إلى أن الولايات المتحدة والقوى الغربية باقية على المضي معها لاستئناف المحادثات النووية، وأنها لن تنصاع للسياسة الإسرائيلية.
لكن القوى الغربية أيضاً حاصرت طهران بالتصريحات المحذرة من التورط في معادلة “إسرائيل أمام غزة”؛ وذلك خشية اندلاع حرب إقليمية قد تسحب معها قدميها، فقد قال الرئيس الأميركي جو بايدن: “قلنا للإيرانيين بوضوح: احذروا!”.
ثم توالت التصريحات الغربية حول فرض مزيد من العقوبات على إيران بعودة الحديث عن تصنيف الحرس الثوري إرهابياً ومراقبة الأنشطة الصاروخية والطائرات المسيرة. وكانت التصريحات الغربية الداعمة لإسرائيل والإعلان عن إرسال حاملة طائرات أميركية إلى المنطقة بمثابة ذر الرماد في العيون؛ لأن الولايات المتحدة لا تريد التورط في حرب جديدة؛ بل تريد الحفاظ على هيبة وجودها في منطقة الشرق الأوسط.
بدت الأمور وكأنها طاولة شطرنج، حتى أن طهران حافظت على الصورة التي رسمتها لها القوى الغربية بعدم تورطها في هذه الحرب؛ لتظل معادلة الانفجار ضد إسرائيل هي نتيجة لسياستها الداخلية الخاطئة، فقد نفى المندوب الإيراني لدى الأمم المتحدة تورط إيران في هجمات “حماس”.
بل إن هذه هي الصورة سعى النظام الإيراني إلى ترويجها بلسان المرشد الأعلى علي خامنئي أيضاً، الذي قال خلال مراسم تخريج طلاب جامعات الضباط، الثلثاء 10 تشرين الأول (أكتوبر): “قالوا إن إيران وراء هذه الحركة، هم مخطئون، بالطبع نحن ندافع عن فلسطين وعن النضال؛ لكن مَن يقول إن عمل الفلسطينيين سببه غير الفلسطينيين، لم يعرفوا الشعب الفلسطيني، لقد استخفّوا بهذا الشعب، وهنا يكمن خطأُهم”.
كانت كلمات خامنئي تشير إلى الوضع الإقليمي الذي يريد عزل القضية الفلسطينية وإبعاد إيران خارج أي معادلة؛ إذ إن هناك أجندات إقليمية تضغط على الفلسطينيين لتحويل قضيتهم إلى مجرد ملف أمني أو اقتصادي أو مهمة الفصل بين القطاع والضفة. وأيضاً بينما تدور المصالحة العربية مع إيران؛ فإنها تدور في فلك المفاضلة بين إيران أو إسرائيل، ودائماً الخيار هو إيران خارج المعادلة الأمنية؛ لأنها ستورطنا في مغامراتها.
نسف المعادلات السياسية!
قبل اندلاع عملية الأقصى، السبت 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، كانت كلمة المرشد الأعلى علي خامنئي أمام ضيوف مؤتمر الوحدة الإسلامية، الثلثاء 3 تشرين الأول، بمثابة الخريطة لهذه الصورة التي أظهرتها هذه العملية عن إيران؛ فهي لن تدخل في معادلة الحرب ضد إسرائيل؛ إلا إذا هاجمتها مباشرةً، والمعلن يقابله المعلن والمستتر يقابله المستتر؛ فقد قال خامنئي: “إن نهضة فلسطين اليوم أكثر نشاطاً من أي وقت مضى… سوف يُجتث هذا الكيان الغاصب حتماً على أيدي الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة في المنطقة كلها”.
أيضاً، تلك العملية المحسوبة على محور المقاومة الذي تتزعمه إيران، كانت فاعلة في نسف المعادلات السياسية الإقليمية التي تتجاهل طهران؛ فبينما يدور الحديث عن جهود أميركية لدفع السعودية للدخول رسمياً إلى مسار التطبيع مع إسرائيل، وكذلك تشكيل تحالف أمني مُعلن بين دول عربية وإسرائيل يضمن تشكيل جدار ناري يمنع عبور إيران عسكرياً إلى الضفة الأخرى من الخليج؛ بما يضع أمن دول الخليج وإسرائيل في دائرة واحدة. كانت إيران تشعر أن خريطة علاقاتها مع العالم العربي بعد مصالحتها مع السعودية، سوف يتم إقرارها بعد أن تصل الرياض وتل أبيب إلى اتفاق أولاً برعاية واشنطن؛ بل حتى اتفاقها مع الولايات المتحدة والقوى الغربية في إطار المحادثات النووية ينتظر نتيجة هذه المعادلة الإسرائيلية – السعودية.
بل أيضاً، إن مبادرة إيران للأمن والتعاون مع دول الخليج لتأمين الملاحة البحرية في المنطقة، لن ينصت لها أحد في ظل هذه المعادلة التي وضعت المفاضلة بين إسرائيل أو إيران.
لذلك بينما كانت تتسارع خطى التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وهو ما أزعج إيران، قال المرشد الأعلى أمام مؤتمر الوحدة الإسلامية: “إن الحكومات التي انتهجت مقامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني مخطئة وستتضرر، والخسارة في انتظارها، إنها تراهن على الحصان الخاسر؛ فوضع الكيان الصهيوني اليوم ليس وضعاً محفزاً لكي يُتقرب منه!”.
كذلك، فإن عملية “طوفان الأقصى”وضعت مبادرة حل الدولتين أمام مسارين، سيحدده الإسرائيليون، الأول بيد المعتدلين، وهو يسعى إلى حل عادل يضمن لإسرائيل الاستقرار والأمن مستقبلاً، والثاني يتبناه المتطرفون وهو لا يقبل بأي اعتراف للحق الفلسطيني، وكلا المسارين لن يخلو من ضرورة الاعتراف بإيران في المعادلة السياسية.
إيران في المعادلة
أثبتت الإشارات المتكررة، سواء من الجانب الإسرائيلي أم الغربي نحو تورط إيران، أنه لا يمكن تجاوزها في أي معادلة أمنية أو سياسية في المنطقة، وأن مبدأ المفاضلة بين إيران وإسرائيل أمر غير فاعل في جلب الاستقرار لها؛ لأن هناك قضايا متأججة، مثل القضية الفلسطينية، واستمرارها لن يسد الباب أمام إيران التي نجحت بعد تلك العملية في إثبات أن التطبيع ليس حلاً بديلاً للقضية الفلسطينية، وأن لا شرق أوسط جديداً من دون إيران.
وبينما كانت خطوات المصالحة الإيرانية – السعودية تمضي على مهل؛ ذهب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى محادثة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول قضية فلسطين وغزة، وذلك للمرة الأولى منذ اتفاق المصالحة؛ ليعلن ولي العهد موقف المملكة الثابت تجاه مناصرة القضية الفلسطينية؛ وبذلك يتحول اهتمام الساسة في المملكة وإعلامها بالعدوان على غزة بدلاً من الاهتمام بالتمهيد لعملية التطبيع مع إسرائيل التي حطمت غزة باب غرفتها!
أيضاً، وبينما كانت إيران تنتهز فرص التجمعات الدولية لعقد لقاءات ثنائية مع دولة مثل مصر، سعياً لتحسين العلاقات معها؛ سارع وزير الخارجية المصري سامح شكري للاتصال بنظيره الإيراني حسين عبد اللهيان؛ لمناقشة التصعيد على غزة؛ الأمر الذي يمثل إقراراً بدخول إيران إلى معادلة الصراع في المنطقة؛ بل إن إيران التي اعتادت مهاجمة القاهرة بخصوص القضية الفلسطينية والسلام مع إسرائيل، أعربت خلال هذه المحادثة على لسان وزير خارجيتها عن تقديرها للجهود التي تبذلها مصر لدعم القضية الفلسطينية!
كذلك، كان الرد الإسرائيلي العنيف في مصلحة محور المقاومة الذي ترعاه إيران، بخاصة أن هذا المحور في ظل عملية التطبيع والتحالفات السياسية مع إسرائيل يعاني انكماشاً واتهاماً بالعمالة لمصلحة الدولة الراعية، لكن هذه العملية أعادت صورته نسبياً إلى محور القضية العربية، على الأقل على المستوى الشعبي، وأنه كما أخطأت إسرائيل حساباتها ضد “حماس”، وهو ما يؤخر أيضاً العملية البرية، فإن محور المقاومة لا يمكن تجاهله في أي عملية سياسية داخلية أم إقليمية.
كذلك أيضاً، فإن ما حدث في غزة نموذج مصغر لما يمكن أن تقابله إسرائيل من محور إيران في المنطقة المعزز بالصواريخ والمسيرات، إذا ما فكرت في مهاجمتها؛ فإن تل أبيب تواجه قنبلة نووية بديلة في يد أذرع إيران!