بقلم: عبدالله السناوي – صحيفة الخليج
الشرق اليوم- لا يتلخص الانقسام الأمريكي الفادح في الكراهيات المتبادلة، التي أفلتت عن كل قيد، بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، أو بين رئيسين حالي وسابق يطمح كلاهما للمقعد نفسه في الانتخابات المقبلة. ما هو تحت السطح أخطر وأفدح. يقال عادة إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا هزلياً. الأرجح حتى الآن أن يتكرر سيناريو 2020 في 2024، نفس المتنافسين جو بايدن ودونالد ترامب، ونفس خطاب الكراهية مقروناً بعصبية مفرطة.
يتجاوز ذلك السيناريو ما هو هزلي إلى ما يشبه الانتحار الاستراتيجي، كأن الولايات المتحدة تيبست شرايينها السياسية وفقدت قدرتها على ضخ دماء جديدة في سياساتها الداخلية والدولية.
هذه ليست أزمة عابرة يمكن تجاوزها بصورة أو أخرى، بعد وقت أو آخر. إنها إشارة لا يمكن تجاهلها إلى نوع المستقبل، الذي ينتظر الولايات المتحدة كقوة عظمى أمسكت وحدها بمقادير النظام الدولي إثر نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق مطلع تسعينات القرن الماضي.
النظام الدولي يبدو الآن متهالكاً وغير قادر على البقاء دون أن يولد نظاماً جديداً من تحت أنقاضه.
اكتسبت القوة الأمريكية أوزانها الدولية بما توافر لها من قدرات عسكرية واقتصادية فائقة، بالإضافة إلى الصورة التي بدت عليها أعقاب الحرب العالمية الثانية وقوة النموذج الذي طرحته في نظاميها السياسي والقضائي. أخطر ما يحدث الآن تقوض الثقة العامة في مؤسساتها، حيث تنتهك أية قواعد وأصول على نحو مزعج. تسييس القضاء عنوان للأزمة المؤسسية، والطعن في نزاهته عنوان ثان.
الأسوأ أن الرئيسين السابق والحالي متّهمان بارتكاب جرائم جنائية، أو التستر عليها، تستوجب السجن في حالة ترامب والعزل في حالة بايدن.
استطلاعات الرأي العام الأمريكية ترجح أن يحوز ترامب الرئاسة إذا كان منافسه هو بايدن. ربح بايدن انتخابات 2020 بتصويت عقابي لا بإقناع سياسي. بدت تلك الانتخابات أقرب إلى استفتاء على ترامب. ربما ينجح هذه المرة أيضاً لسبب نفسه. وربما يراهن غريمه أن تنقلب اللعبة عكسياً.
الشخصنة الزائدة من علامات الأزمة الأمريكية المتفاقمة مع كل قضية جنائية جديدة ضده ترتفع شعبية ترامب، 4 قضايا في ولايات مختلفة و91 تهمة أغلبها ثابتة وموثقة.
هذا بذاته مؤشر خطير على تدهور العدالة الأمريكية واستعداد قطاعات واسعة من الرأي العام للتغاضي عن جرائم جنائية بمقتضى الصراعات السياسية، أو لاعتبارات الانقسام العرقي في بنية المجتمع الأمريكي.
تسييس العدالة حاضر بصورة أو أخرى في المحاكمات.. وترامب لا يتورع عن وصف المدعين العامين والقضاة الذين يوجهون له الاتهامات ويحاكمونه بالتحيز السياسي والفساد.
إننا أمام دولة مأزومة في صورتها السياسية وأوضاعها الداخلية فيما التحديات الاستراتيجية الدولية تضغط على أعصابها.
بذريعة “أمريكا أولاً” تراجعت المكانة الأمريكية في سنوات ترامب. وبذريعة “أمريكا عادت” تورط بايدن في المستنقع الأوكراني.
الأول، انسحب من منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، واليونسكو. كاد يفكك وحدة التحالف الغربي وحلف “الناتو” بشعار: “الأمن مقابل الدفع”. وكانت إدارته لجائحة “كوفيد 19” كارثية.
الثاني، تبنّى سياسة مناقضة رهاناً على استعادة القيادة الأمريكية، لكنه أخفق في إدارة الملف الأفغاني وكان الانسحاب العشوائي لقواته من كابول مهيناً لدولة توصف بالعظمى. كما أخفق في تقدير حدود القوة بإدارة الأزمة الأوكرانية متصوراً أن هناك فرصة لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا.
أعاد بايدن رسم خرائط القوة في أوروبا، وفرض نوعاً من القيادة الأمريكية على الحلفاء الذين كاد ينفرط عقدهم. شيطن روسيا كعدوٍّ استراتيجي يستدعي الوحدة الغربية ضدها دون أن يدرك حقائق القوة المتغيرة، وأن النظام الدولي القديم استنفد زمانه؛ فدول آسيوية متقدمة اقتصادياً وتقنياً كالصين والهند تتطلع للعب أدوار قيادية في النظام الدولي، وروسيا يستحيل حذفها كلاعب دولي جوهري، ودول عديدة أخرى تتطلع للمشاركة في صناعة القرار الدولي.
يستلفت النظر هنا أن سلوفاكيا، إحدى الدول الرئيسية في شرق أوروبا، انتخبت رئيساً يناهض الحرب الأوكرانية وقريب من موسكو، المجر لها موقف مماثل، والظاهرة مرشحة للتمدد بدواعي الضجر من كلفة الحرب الباهظة على اقتصاداتها دون أن يبدو في الأفق المسدود أية احتمالات منظورة لتسوية سياسية.
في الولايات المتحدة، طرحت تكلفة الحرب الأوكرانية نفسها موضوعاً رئيسياً على التنازع الداخلي حتى كادت المؤسسات الفيدرالية تغلق فيما يعرف بأزمة الإنفاق الحكومي قبل أن يجري تدارك الإغلاق في الساعات الأخيرة. لأول مرة في التاريخ الأمريكي يُعزل رئيس لمجلس النواب لإقدامه على عقد اتفاق مع الديمقراطيين يتجنب الإغلاق.
بعد شهر ونصف الشهر سوف تزداد الأمور صعوبة ويصبح بايدن عاجزاً تماماً عن تمويل كييف بما تطلبه من أموال وأسلحة.
ما الذي يمكن أن يحدث إثر ذلك التطور الجوهري؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه الآن بإلحاح على صانع القرار الأمريكي والعالم بأسره.