بقلم: عبدالحميد توفيق- العين الإخبارية
الشرق اليوم– أطلّت كل من طهران وأنقرة في ساحات عدة في المنطقة وخارجها بعد تفجر أحداث عنف وفوضى واضطرابات، من بينها ساحة الصراع الأرميني الأذربيجاني حول إقليم قره باغ، الذي طويت صفحته وعاد لسيادة أذربيجان بعد آخر جولة من جولات الحروب الدامية بين البلدين.
تساكَنَ الجانبان التركي والإيراني في مناطق ساخنة رغم تخندق كل طرف في مواجهة الطرف الآخر ميدانياً وعسكرياً وسياسيا، كما هو الحال في سوريا وأذربيجان وأرمينيا، أسهمت التحديات الخارجية التي تواجه إيران وتركيا في تأجيل بروز الخلافات والتناقضات بينهما إلى العلن.
إذا كانت التكتيكات والتحديات تتطلب تبريداً لسخونة المناكفة ولو حيناً من الزمن، فإلى متى يمكن استمرارها؟ إلى أي مدى تستطيع إيران غض البصر عن سياسات تركيا في ملفات حساسة بالنسبة لها مثل ما حصل لإقليم قره باغ تحديدا وما سيترتب عليه لاحقا؟ كيف سيكون شكل علاقاتهما مستقبلاً في ظل تعارض أجندة كل منهما، حيث تمضي تركيا في مشروعها الاستراتيجي هناك على تخوم جغرافية إيران ومصالحها الحيوية، بينما تلوّح طهران بموقفها الرافض لأي تغيير جيوسياسي قرب حدودها الشمالية؟
ما هي العوامل التي يمكن أن تدفعهما إلى الافتراق؟ تناقضُ المصالح بينهما لم يعدم التقارب التكتيكي كون الهدف واحداً وهو تحقيق المصالح وتعزيز الأوراق، لكن تعارض الأجندات في ملفات وقضايا كثيرة عنوان لا تخطئه العقول، فتركيا الساعية لترتيب أوراقها أو لإعادة ترتيب أولوياتها على المستويات الداخلية والخارجية تحت ظروف وتحديات سياسية واقتصادية وأهداف استراتيجية؛ مضطرة لمجافاة إيران في بعض الملفات التي يتشاركان العمل فيها حالياً من باب ظرفية المصالح والتخادم المتبادل.
وفي هذا السياق يسهل فهم تحولين جوهريين، الأول وعي أنقرة لضرورة وأهمية العلاقات مع الدول العربية المؤثرة كالإمارات والسعودية ومصر، والتحول الثاني ينم عن تغيير في مقاربة تركيا لتطورات الأحداث في المنطقة بشكل عام وما تتضمنه من دلالات وأبعاد.
لا شك في أن استدارة تركيا نحو مصالحها الحيوية في المنطقة على قاعدة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية واحترام خيارات كل بلد مهم لاستقرار المنطقة من ناحية، ومن ناحية أخرى يوسع هامش مناوراتها السياسية في قضايا وملفات دولية حيوية مثل الوضع الجديد الناشئ بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل مشروع ممر زنغزور الذي تسعى أنقرة لإنشائه عبر أراضي أرمينيا من أجل الوصول إلى باكو، وتدشين خطوط امتدادها التاريخي في آسيا الوسطى من خلال مشاريع الطاقة ونقل الغاز من نخجوان الأذرية إلى أغدير التركية، وكلها مشاريع تواجه معارضة إيرانية، باعتبارها تغييراً “للحدود التاريخية” كما تقول طهران، ورفضا من قبل أرمينيا لأنه يشكل “تقويضا لسيادة البلاد طالما أنه سيكون خارج سيطرة يريفان”.
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا ظلت العلاقات البينية مع طهران قائمة، لكن ذلك لا يعني انسحاب التفاهمات على ملفات الصراع في المنطقة من سوريا إلى اليمن إلى أذربيجان، فطهران لا ترغب في رؤية تركيا وقد أضحت صاحبة النفوذ الأوسع في الإقليم، وهي ترسخ علاقاتها وخطوطها التجارية والاقتصادية مع أذربيجان، جارة إيران اللدودة، في حين تعتقد أنقرة استحالة تطابق أهدافها مع طهران أو حتى تجانسها انطلاقا من بُعدٍ تنافسي وإرث تاريخي مرتبط بشكل وثيق بمصالح وعلاقات كل منهما مع العالم الخارجي.
الظروف الناشئة تجعل تمسّك إيران بلاعب إقليمي كتركيا ورقةً رابحة لها، والظروف ذاتها تدفع أنقرة للتعاطي مع إيران بحكم احتياجاتها ومصالحها .
رغم بعض المؤشرات وبواعث الافتراق المحتمل على المستوى الإقليمي، إلا أن مؤثرات أخرى يمكن أن تلعب دورا في تعميق التباينات بينهما، من بينها التحولات الحاصلة في وجهة الاستراتيجيات الدولية خصوصا على مستوى الدول الكبرى كالولايات المتحدة ودول الغرب الأطلسي من جانب، والصين وروسيا وحلفائهما من جانب آخر.
في ظل التطورات المستجدة في الإقليم وعلى المسرح الدولي، من الحرب الأوكرانية الروسية، إلى التغيرات الناشئة بين أذربيجان وأرمينيا، وعلى وقع المقاربات الجديدة للإدارة الأمريكية لعدد من ملفات المنطقة والعالم، فليس بعيداً أن تتحوّل الدوافع التي أسهمت في تقاربهما المرحلي إلى عوامل لفتور محتمل تبعاً للمستجدات التي قد تطال هذا الجانب أو ذاك، وتبعاً لحدود المصلحة التي ينشد كل منهما تحقيقها لنفسه حتى لو جاءت على حساب الآخر.
ملامح الغد في منطقة القوقاز تؤشر إلى عودة تلك المنطقة إلى ساحة للمنافسة وللصراع بين القوى الإقليمية والكبرى كما كانت في عهود سابقة، ولربما تصبح ساحة خلاف إضافية مستقبلا بين طهران وأنقرة، فالأخيرة ماضية في استراتيجيتها وقد كسبت جولة الصراع إلى جانب باكو، وهذا سيزيد من منسوب قلق طهران وتوترها من احتمال تفجر صراع وعدم استقرار على حدودها وما يعنيه لها من تداخلات عرقية ومذهبية.