الرئيسية / مقالات رأي / “القوّة” أداة في العلاقات الدوليّة… أذربيجان في كراباخ!

“القوّة” أداة في العلاقات الدوليّة… أذربيجان في كراباخ!

بقلم: محمد حسين أبو الحسن- النهار العربي
الشرق اليوم– بعملية عسكرية مباغتة، أزالت أذربيجان جمهورية ناغورني كراباخ من الوجود؛ معلنة “استعادة السيادة” على الجيب المتنازع عليه مع أرمينيا؛ لتنهي بذلك أحد “النزاعات المستعصية المجمّدة”، طوال 100 عام، إذ أعلن الزعيم الانفصالي للإقليم سامفيل شهرمانيان حل مؤسسات الدولة (غير المعترف بها دولياً)، اعتباراً من كانون الثاني (يناير) 2024، بينما فر نصف السكان إلى أرمينيا التي اتهم رئيس وزرائها نيكول باشينيان، أذربيجان بتنفيذ “تطهير عرقي” في ناغورني كراباخ؛ فهل باتت دول العالم على موعد مع فصل جديد من توظيف القوة في تسوية القضايا العالقة بين الكبار والصغار في بقاع أخرى؟

صراع ملتهب
ترجع جذور الصراع الملتهب في منطقة القوقاز الغنية بالنفط والغاز إلى أكثر من قرن مضى، حين كانت المنطقة مسرحاً للتنافس على النفوذ بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الترك والفرس، إلى أن هيمنت روسيا على المنطقة، ضمن حدود الاتحاد السوفياتي السابق الذي كانت أرمينيا وأذربيجان ضمن الجمهوريات المكونة له، وبرغم ذلك ظل تنازعهما على إقليم ناغورني كراباخ ذي الأغلبية الأرمينية، كالجمر المستعر تحت الرماد عشرات السنوات، منذ ألحقت السلطات السوفياتية الإقليم بأذربيجان عام 1921. هدأ الصراع حتى أشرف الاتحاد السوفياتي على الانهيار، فعاود الاشتعال عام 1988، ثم استقلت الدولتان عن “الاتحاد”، بينما أعلن “كراباخ” استقلاله من جانب واحد عام 1991، بدعم من أرمينيا.

وفي عام 1994 وُقّعت باكو ويريفان اتفاق وقف إطلاق النار بينهما، برعاية “مجموعة مينسك” التي ضمّت روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلا أن الاشتباكات المسلحة ظلت تتواتر على فترات مختلفة بعنف ظاهر، راح ضحيتها عشرات الآلاف ونزح مليون شخص من الجانبين، حتى جاء اليوم الذي أعلنت جمهورية “كراباخ” زوالها من الوجود وانتصار أذربيجان التي فرضت كلمتها بالسلاح وموازين القوة، ودعم مباشر من تركيا وإسرائيل وصمت الغرب وتجاهل الروس لما يجري في حديقتهم الخلفية أي القوقاز، مع ضعف قدرات أرمينيا.

وقد أدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “خيار أذربيجان باللجوء إلى القوة والتهديد بزيادة حدة الأزمة الإنسانية في كراباخ”، ما أثار قلق المجتمع الدولي مثلما عبّر عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

قطع الشّرايين
لا يعد سلوك أذربيجان للسيطرة على ناغورني كراباخ وقطع شرايين الإقليم مع أرمينيا بالقوة سلوكاً استثنائياً في هذا الزمان أو أي زمان، إذ يشكل “اللجوء إلى استخدام القوة” عنواناً للعلاقات الدولية منذ القدم؛ فقد كانت الحرب أو العدوان قبل ميثاق الأمم المتحدة أمراً مشروعاً ووسيلة مقبولة لفض النزاعات بين الجماعات والدول على امتداد التاريخ. شغلت مشكلة تعريف العدوان الحكماء والفلاسفة على مدى القرون، ومنذ روما القديمة يعرّف مؤرخو القانون الظاهرة بأنها اعتداء من دولة أقوى على دولة أضعف لتحقيق مكاسب ومصالح والتوسع في حدود المعتدى عليه وثرواته.

ولا تزال القوة وموازينها أساس العلاقات بين الدول؛ “القوة” هي القدرة في التأثير على سلوك الدول الأخرى للتوافق مع أهداف الدولة التي تمارس القوة، وهي ركيزة تصنيف الدول على سلّم المكانة إلى: دول عظمى وكبرى ومؤثرة وصغيرة، كما تصنف الدول من حيث أهدافها أيضاً بدول قوة تسعى للسيطرة والتملك والنفوذ مثل أميركا وروسيا وإيران وإسرائيل مثلاً، ودول إنسانية تسخّر إمكاناتها من أجل أهداف إنسانية مثل الإمارات. وتتفاوت عناصر القوة ومكوناتها من دولة لأخرى، ارتباطاً بالسلوك السياسي للدولة وأهدافها القومية، والتي تتمحور حول الهيمنة والنفوذ والتمدد الجغرافي، وهذه الأهداف تتعارض مع أهداف الآخرين؛ ما يفسر الاعتماد على القوة الذاتية فى حماية مصالح الدولة وأهدافها؛ كل دولة تسعى لتضخيم عناصر قوتها، وصارت تحولات موازين القوى إحدى سمات العلاقات المعاصرة. تكمن إشكالية اللجوء إلى القوة بإفراط في العلاقات الدولية في إشعال التناحر والصراعات والحروب بين الدول، ثم خرق الأعراف الدولية والمعايير الأخلاقية وتجردها من إنسانية القوة، لذا يروح ضحيتها المدنيون الأبرياء.

برغم ذلك، لم تنجح القوة المفرطة فى حسم كثير من المنازعات، ناهيك عن مآسيها، لذا برزت آليات دبلوماسية وقانونية لإدارة الخلافات، رسخها القانون الدولي، قبل أن تتعزز بآليات طرحها الفقه الدولي وتبناها كثير من الدول، إذ برزت مفاهيم: “الردع” و”القوة الناعمة” و”دبلوماسية الخطوط الحمراء”؛ ويعد منع عدوان الدول على بعضها البعض مسؤولية المجتمع الدولي ومنظماته، ولا سيما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، امتثالاً لما ورد في البابين السادس والسابع، والمواد 39 و50 والمتضمنة اتخاذ جميع الإجراءات ضد الجرائم الدولية، خاصة الحرب والعدوان المسلح ضد دولة أخرى، وخوّل مجلس الأمن الصلاحيات اللازمة لاتخاذ تدابير عسكرية أو غير عسكرية وفقاً للمادتين 41 و42 المتضمنتين تصرف مجلس الأمن بما يحفظ الأمن والسلم الدوليين؛ وعليه يكتسب مبدأ “تجريم استخدام القوة” في العلاقات الدولية حجية قانونية، سواء كانت هذه القوة مباشرة أو غير مباشرة، كالضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية، ويتحمل أعضاء المجلس الخمسة الدائمون مسؤولية خاصة طبقاً للميثاق؛ لأن التدخل المسلح ضد شخصية الدولة أو نظامها السياسي أو الاقتصادي والثقافي مرفوض قانوناً.

شدّ الحبل
المؤسف أنه برغم المواثيق الحاكمة للنظام العالمي، فإنها تطبق انتقائياً، وأول من يهدرها هم الخمسة الكبار في مجلس الأمن، مثل أميركا في فيتنام وأفغانستان والعراق، والاتحاد السوفياتي وروسيا في أفغانستان وأوكرانيا، وبريطانيا في جزر فوكلاند وفرنسا في دول الساحل والصحراء، وهكذا… ترى القوى العظمى أن لها الحق في ترتيب الأوضاع الدولية بما يخدم مصالحها في بسط السيطرة على الدول المستضعفة، أي تصنع مشهداً دولياً يتناسب مع أهدافها، ثم التسويق لمشروعاتها التي تعتمد على القوة والحرب والتدمير بدعوى الإصلاح والتغيير؛ بواسطة القوة العسكرية أو الترهيب الاقتصادي والسياسي، لذلك تسود “شريعة الغاب” في معظم الأحوال على المسرح الدولي؛ ما يفرز نتائج بالغة الخطورة على الواقع البشري والحضاري للإنسان، منها انتهاك القانون الدولي وإفشال مبدأ تحريم اللجوء إلى القوة، ومن ثمّ تزايد العنف والنزاعات والحروب؛ مع كثرة التدخلات العسكرية لأسباب اقتصادية أو سياسية؛ فينتشر الخراب وتتعرقل خطط التقدم والتنمية.

ولأن القوة النيرانية اليوم أشد فتكاً وتدميراً؛ نعايش صراعات وحروباً غير متوازنة، ينعدم بين أطرافها التوازن العسكري والاستراتيجي؛ ما يعطل الوصول إلى حلول سلمية ويزعزع الأمن العالمي ويهدر سيادة الدول ويفتح الباب لاستخدام القوة في العلاقات الدولية، دون ضوابط أو مبررات مشروعة، كالدفاع عن النفس. أظهرت التطورات الجارية في أوكرانيا وناغورني كراباخ والسودان ومالي والنيجر والسلوك الإثيوبي في ملف سد النهضة وغيرها تضعضع دور الأمم المتحدة، وعدم قدرتها على وضع حد للنزاعات الدولية سلمياً، خاصة مع تصاعد “شد الحبل” بين الدول العظمى في أغلب القضايا والملفات، إذ تلجأ معظمها إلى استخدام “القوة الخشنة” لتسوية صراعاتها.

لذلك لا عجب أن الرهان على القوة العسكرية أضحى مستساغاً وسائداً بين الدول المتوسطة والصغيرة، بل والجماعات الفاعلة من غير الدول، كالجماعات الإرهابية، في تحقيق مصالحها وأهدافها المختلفة. على سبيل المثال تثير الأطماع السادرة لإسرائيل وإيران وتركيا وإثيوبيا في محيطها العربي والإقليمي تهديدات جدية ومخاوف حقيقية، في ظل امتلاك أو سعي بعضها لامتلاك الأسلحة النووية والأسلحة الفتاكة الأخرى؛ ما يجعل الإقليم فوق فوهة بركان، في ظل اختلال موازين القوى وتنامي أطماع دول إقليمية، بدعم دولي، في الأراضي والثروات والمياه العربية، وهي تقوم بالتمدد وبسط النفوذ والهيمنة كلما كانت الفرصة مواتية، ولعل ما حدث في كراباخ عبرة لمن يعتبر!

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …