الرئيسية / مقالات رأي / المعاني المتغيرة للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) (2 من 3)

المعاني المتغيرة للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) (2 من 3)

بقلم: عقيل عباس- النهار العربي
الشرق اليوم– في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2003، أعلن السيد عبد العزيز الحكيم، رئيس “المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” في ذلك الوقت، أن العراق مدين بتعويضات بمليارات الدولارات لإيران عن الحرب التي شنها صدام ضدها، “حسبما أقرت الأمم المتحدة”. قال الحكيم هذه الكلمات في أثناء زيارة رسمية له الى بريطانيا، بوصفه رئيساً لمجلس الحكم الذي تشكل بجهود أميركية – بريطانية ودعم رسمي دولي وأممي كي يتولى تدريجياً تسلم السلطات من الأميركيين (لم تمض هذه الخطة إلى نهايتها إذ استعيض عنها بانتخابات مبكرة في 2005 لانتخاب حكومة وكتابة دستور دائم).

عملياً كان السيد الحكيم، في وقت رئاسته الدورية للمجلس، بمنصب رئيس جمهورية العراق. كان لافتاً وصادماً حينها أن شاغل المنصب الأعلى في البلد، وإن كان اسمياً، يُقدم المصالح الإيرانية على المصالح العراقية، عبر ترديده موقفاً إيرانياً مألوفاً ومغلوطاً.

في الحقيقة، لم تقرر الأمم المتحدة أي تعويضات لصالح إيران أو العراق في نهاية تلك الحرب، كما لم تحدد من هو الطرف المعتدي فيها أو تطالبه بتقديم تعويضات للطرف الآخر. بالعكس، أشار القرار الأممي 598 الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في تموز (يوليو) 1987 وبموجبه انتهت الحرب في 1988 في فقرته السابعة إلى بذل جهود دولية لمساعدة الطرفين على إعادة إعمار ما خربته الحرب، إذ نصت هذه الفقرة على أن مجلس الأمن “يقر بضخامة الأضرار المتكبدة، أثناء النزاع، والحاجة إلى بذل جهود لإعادة الإعمار، بمساعدات دولية مناسبة، حالما يتوقف القتال، ويرجو، في هذا الصدد، من الأمين العام، أن يعين فريقاً من الخبراء، لدراسة مسألة إعادة الإعمار، وأن يقدم تقريراً عن ذلك إلى مجلس الأمن”. أقصى ما ذكره القرار الدولي بخصوص ما يمكن أن يقود لإثارة موضوع التعويضات هو جملة غامضة ومفتوحة في الفقرة السادسة نصت على مطالبة “الأمين العام، أن يستطلع، بالتشاور مع إيران والعراق، مسألة تكليف هيئة محايدة بالتحقيق في المسؤولية عن النزاع، وأن يقدم تقريراً عن ذلك إلى المجلس، في أقرب وقت ممكن”.

أثار التصريح حينها ضجة عراقية غاضبة ليتم بسرعة سحبه وتالياً حتى إنكار أصل صدوره! لكن بعيداً عن غياب الدقة في التصريح والخطأ السياسي في صدوره بالمقام الأول، كان التصريح كاشفاً عن نوعية التفكير السائد بين حركات الإسلام السياسي الشيعي بخصوص فهمها للحرب، وعبرها للوطنية العراقية ومعنى السيادة. خلاصة هذا الفهم هو أن الرابطة الدينية -المذهبية هي أهم وأعلى من الرابطة الوطنية، وبالتالي فليس للجغرافيا والأرض والمدن معنى سيادي ووطني وقانوني، بل هو “الحق”، بفهمه الديني، بما ينطوي عليه من قيم وأفكار يختص بتفسيرها وتحديدها مراجع دينيون، هو الذي يقرر معنى الانتماء وينبغي أن يحكم الأرض ويقرر مصائر الأفراد. في إطار هذا الفهم الديني، المرتبط بتنشئة اجتماعية وسياسية عميقة وطويلة، اندرجت حركات الإسلام السياسي الشيعي العراقي، بمختلف توجهاتها، في الجهد الحربي الإيراني، وقاتلت إلى جانب القوات الإيرانية ضد القوات العراقية، فضلاً عن ترويجها للدعاية الإيرانية بهذا الصدد وتبنيها. حتى برغم الخلافات الكثيرة والمهمة بين هذه الحركات، خصوصاً بين “حزب الدعوة الإسلامية” الذي قاوم المحاولات الإيرانية لتذويبه أو دمجه بالبنية المؤسساتية -الثورية الإيرانية، و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” الذي تولى قيادته لاحقاً السيد عبد العزيز الحكيم وكان مستعداً لمثل هذا الإدماج، فإن الإثنين كانا متوحدين تقريباً في موقفهما في الدفاع عن “إيران الإسلام” وتبني طروحات “الثورة الإسلامية” التي نظرت باستصغار للحدود والشعوب بوصفها هويات مختلفة قانونية ووطنية، لصالح مفهوم الأمة العابر لهذه الحدود والتصنيفات القانونية.

كان موقف هذه الحركات مخلصاً ومنسجماً مع تشكلها الثقافي والسياسي، فالوطنية كمفهوم تشكل ونما في إطار الحداثة على مدى الثلاثة قرون الماضية وأصبح أساسياً في التعريف القانوني والعاطفي للهوية، ليس جزءاً من تشكل هذه الحركات ولا فهم أعضائها لذواتهم. يُنظر لهذا المفهوم بارتياب شديد بين هذه الحركات، بوصفه صنيعة غربية علمانية لتفكيك الانتماء الديني الإسلامي الذي لا يؤسس ولا ينص في تراثه الغزير والطويل على هذا المفهوم.

ما ساعد حركات الإسلام السياسي الشيعي العراقية على تجاوز الحاجة للتعاطي الجدي مع مفهوم الوطنية والوقائع المتشكلة على أساسه، هو الوهج الثوري الرومانسي العابر للحدود الذي مثلته الثورة الإيرانية، خصوصاً عبر سلوك وخطاب زعيمها الروحي، آية الله الخميني. من خلال إصرار هذا الرجل الطاعن بالسن والضعيف بالجسد لكن القوي بيقينه الإيماني، على العيش مثلاً في بيت متواضع في مدينة قم وعدم تردده في خوض مواجهات شرسة مع قوى خارجية هائلة في إمكانياتها كالولايات المتحدة الأميركية، من جهة، وتحديثه مفردات، وليس محتوى، الخطاب الديني التراثي من خلال ثنائيات أخلاقية معاصرة مثل الصراع بين المستضعفين والمستكبرين، من جهة أخرى، استطاع السيد الخميني إثارة حماسة دينية – ثورية غير مسبوقة في المنطقة. أعادت هذه الحماسة تعريف المستحيل بوصفه ممكناً عبر جمع الإسلاميين الحركيين بين الإيمان والإصرار وعدم التهيب من النتائج ما دام المرء على “طريق الحق”. في مثل هذه الأجواء اللاهبة ثورياً والمكتظة بالأحداث والتحديات، والمتسقة أيضاً مع التراث الديني الشيعي التقليدي، اندمج الإسلاميون الشيعة العراقيون في الروح الوثابة التي صنعتها الثورة الإيرانية وغذّاها الخطاب الخميني، بالأمل الذي بثه بينهم بأن إطاحة نظام صدام البعثي “العلماني” و”العفلقي” ممكنة، بل هي قريبة ومتيسرة، وتحتاج فقط بعض الإصرار المؤمن والشجاع كي “يتحرر” العراق من “رجس” البعث وظلمه ويتولى الإسلاميون الشيعة العراقيون حكم البلد، على الأكثر، على أساس نموذج شبيه بالنموذج الإيراني حينها.

دامت هذه اللحظة الخمينية الاستثنائية طويلاً، نحو عشر سنوات، منذ بدئها في تشرين الأول (أكتوبر) 1978 عندما اضطر الرجل مغادرةَ العراق والذهاب الى فرنسا لمواصلة معارضته الناجحة لنظام الشاه، وصولاً إلى نهاية الحرب العراقية – الايرانية. جاءت نهاية هذه اللحظة في تموز (يوليو) 1988 عند اضطرار الخميني الموافقة على القرار 598 لإنهاء الحرب بعد رفضه له عاماً كاملاً. كان إعلان الرجل لهذا الاضطرار في خطبة موجهة للجمهور الإيراني، واعتذاره له عن المعاناة الهائلة التي سببتها هذه الحرب له، من دون تحقيق الهدف المرجو منها، إقراراً مفاجئاً وصادماً بأن المستحيل ليس ممكناً وأن ثمة حدوداً واقعية تعجز أمامها حتى الحماسة الثورية – الدينية.

في إطار هذا الإقرار الإيراني الواقعي بالفشل وخيبة الأمل، تكيفت حركات الإسلام السياسي الشيعي العراقية مع الحقائق الجديدة بطرق مختلفة. لكن لم يتضمن هذا التكيف إعادة النظر في بنيتها الفكرية عبر محاولة استكشاف مفهوم الوطنية والدلالات المهمة التي ينطوي عليه في العالم الحديث، بضمنها المصالح والسيادة والشعب. مثل هذا الاستكشاف، لو دخلت فيه وكان جاداً ومخلصاً، كان سيساعدها كثيراً في التعاطي مع تحديات الحكم بعد 2003 وتجاوز الفشل العميق الذي تمر به هذه الحركات في عراق يشكك معظمه بصلاحيتها للحكم وبإيمانها بالوطنية العراقية.

شاهد أيضاً

مع ترمب… هل العالم أكثر استقراراً؟

العربية- محمد الرميحي الشرق اليوم– الكثير من التحليل السياسي يرى أن السيد دونالد ترمب قد …