بقلم: عبد الرحمن الراشد- الشرق الأوسط
الشرق اليوم– نجحت الحكومة الأمريكية في تجنب إغلاق بعض المؤسسات الفيدرالية عن العمل بسبب أزمة الديون الحكومية، حيث صوت الكونغرس في اللحظات الأخيرة لصالح توفير تمويل مؤقت يضمن استمرار عمل الدوائر الحكومية لمدة 45 يوماً، بعد انتهاء مدة التمويل السابق سبتمبر/أيلول الماضي.
ورغم ذلك فإن الإشارة التي يحملها هذا التصويت في اللحظات الأخيرة من السنة المالية أن الإدارة الأمريكية تعاني خللاً وظيفياً في العمل التشريعي لأن مؤشرات أزمة التمويل كانت واضحة منذ فترة.
ومع أن البعض يستشهد على أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها الولايات المتحدة الأمريكية أزمة اقتصادية داخلية تهدد بإغلاق حكومي هناك. وأنها شهدت ثمانية عشر إغلاقاً خلال الخمسين عاماً الماضية، كان آخرها في عام 2018، فإن الأزمة الحالية متعلقة بالعمل الديمقراطي داخل الكونغرس الأمريكي الذي يعاني انقساماً ليس فقط بين أتباع الحزبين الديمقراطي الجمهوري وإنما حتى في الجمهوريين أنفسهم الذين يسيطرون على مجلس النواب فهم منقسمون فيما بينهم فرئيس مجلس النواب ومعه 21 نائباً جمهورياً آخرين صوّتوا مع الديمقراطيين لتوفير التمويل الحكومي لمدة 45 يوماً.
المثير للتأمل في هذا الوضع الذي تنفرد به الولايات المتحدة الأمريكية، أن الاقتصاد الأمريكي، أكبر اقتصادات العالم، يتعرض لهذه الأزمة كل بضعة أعوام. وفي كل مرة تلجأ واشنطن إلى هذا الحل المرحلي. والسبب الأساسي أن حجم الإنفاق الحكومي في الموازنات العامة هناك، يتجاوز دائماً مجموع الإيرادات العامة الفعلية والمتوقعة.
ورغم تكرار الأزمة فإن الحكومات المختلفة تُصر على نفس الحل وهو الإغلاق مع نهاية السنة المالية في 30 سبتمبر/أيلول. رغم أنه لا يقدم حلاً جذرياً لأزمة الديون الحكومية، بل إنه يزيد من وطأة الأزمة حيث يفاقم الأعباء الاقتصادية ويحمل الموازنة العامة تكاليف فترة الإغلاق والقيمة المالية الضخمة للخسائر المترتبة عليه.
لهذا فإن احتمالات الاتفاق على إقرار التمويل بعد انقضاء فترة الـ45 يوماً ضئيلة نظراً لحالة الخلافات بين الأعضاء في الكونغرس، ما يجعل الموظفين الفيدراليين في حالة من القلق الدائم. وهو يجعلنا نستخلص أن هناك خللاً هيكلياً في نظام الاقتصاد الأمريكي يتسبب في ارتفاع حجم الديون ومن ثم تعدد حالات الإغلاق، الذي لا يحل الأزمة من جذورها وإنما يعمقها ويكرسها بالشكل الذي يجعلها تدور في نفس الحلقة المغلقة مراراً وتكراراً.
ويكمن الخلل الهيكلي في الاقتصاد الأمريكي في الانحياز الكبير إلى جانب الاقتصاد الرأسمالي الحر، الذي يمنح الفرد أولوية على المجموع. فتصير المشروعات الخاصة سواءً كانت صناعية أو زراعية أو غيرها، هي التي تتحصل على الشق الأكبر من مكاسب الاقتصاد وعوائد الإنتاج في الدولة كلها.
وحين يكون الاقتصاد الحكومي قائماً على قطاعات إنتاجية محدودة وذات طبيعة خاصة مثل صناعات الأسلحة والطائرات، بينما تحتل الخدمات العامة والاجتماعية النسبة الكبرى من الإنفاق إضافة إلى رواتب ومستحقات الجهاز الإداري للدولة الضخم هناك (1.3 مليون عسكري و2 مليون مدني)، يكون مفهوماً أن يشهد الاقتصاد أزمة الديون المتكررة بسبب هذا الاختلال الهيكلي بين الإيرادات والمصروفات.
إن الأزمة الأساسية في هذه القضية هي استمرار هيمنة التوجهات اليمينية المتحكمة في الاقتصاد الأمريكي. ورغم المشكلات والعثرات التي ترتبت على تبني الأفكار الليبرالية، جرى تطويرها إلى مزيد من الفردية لتصير نيوليبرالية، أي أكثر تطرفاً وإمعاناً في إعلاء آليات السوق ووضع القطاع الخاص في مكانة متميزة ومحصنة على حساب التزام الحكومة تجاه المجتمع.
إن الإدارات الأمريكية المقبلة ستواجه نفس الأزمة كما كان يحدث في الإدارات السابقة طالما هناك استمرار لسيطرة أصحاب الأفكار والتوجهات الاقتصادية الليبرالية، التي تدير الدولة بمنطق الشركات والأعمال الخاصة، وليس ككيان جماعي له مصالحه وحساباته ومقتضياته التي تختلف كلية عن الأفراد.