الرئيسية / مقالات رأي / مصر بين «وصفة الشيطان» ومصالح «صائدى الفرص»

مصر بين «وصفة الشيطان» ومصالح «صائدى الفرص»

بقلم: دينا عبد الفتاح- العين
الشرق اليوم– في 16 ديسمبر 2022، وافق صندوق النقد الدولى على اتفاق مالى جديد مع الحكومة المصرية.. يمنح بمقتضاه مصر قرضًا بقيمة 3 مليارات دولار جديدة. وجاءت في نص الاتفاق مجموعة من التعهدات على الطرفين؛ الحكومة المصرية من جانب وصندوق النقد الدولى من جانب آخر. بالتأكيد الالتزامات المفروضة على الدولة المصرية لم تخرج عن «وصفة الشيطان» المتعارف عليها، والتى يفرضها صندوق النقد الدولى على أي من الدول التي تلجأ إليه بغرض الاقتراض جراء تعرضها لأزمات اقتصادية.
هذه الوصفة التي تتضمن تحريرًا كاملًا لسعر الصرف، وتخفيض معدلات التضخم، وسياسة تشديد مالى لتقليل الديون، علاوة على إصلاحات تضمن تخارج الدولة من الاستثمارات.

تم توقيع هذا الاتفاق في إطار ما يسمى «تسهيل الصندوق الممدد»، وهذا النوع يتيح المزيد من التمويل لصالح مصر من شركائها.. وهو ما تضمنه الاتفاق في جوهره. فقد تم بناء هذا الاتفاق على أساس أن يمنح الصندوق 3 مليارات دولار.. وفى الوقت نفسه يتم منح مصر تمويلا إضافيًّا بقيمة 14 مليار دولار أمريكى من الشركاء الدوليين والإقليميين. ما يعنى موارد جديدة للتدفقات النقدية الأجنبية من دول مجلس التعاون الخليجى وشركاء آخرين من خلال عمليات البيع الجارية للأصول المملوكة للدولة، بالإضافة إلى قنوات التمويل التقليدية المتعارف عليها بين الدائنين الثنائيين ومتعددى الأطراف «القروض الميسرة».

ما حدث على أرض الواقع أن الصندوق قام بعد توقيع الاتفاق بصرف دفعة فورية قيمتها 347 مليون دولار للمساعدة في دعم المركز المالى، وكان من المقرر صرف شريحة ثانية بالقيمة نفسها في شهر سبتمبر المنقضى والباقى على 6 شرائح حتى عام 2026.. وبدأ الصندوق يطالب الدولة المصرية بتنفيذ حزمة السياسات التي تستهدف- من وجهة نظره- الحفاظ على الاستقرار الاقتصادى.

وفى الوقت نفسه تقاعس وتكاسل الشركاء الدوليون والإقليميون عن إتمام أي من عمليات الشراء أو تنفيذ أدوات التمويل التقليدية المتعارف عليها في ظل هذه الاتفاقات.

ولم تتسم التصرفات بالمرونة المطلوبة التي تتيح لصانع القرار أن يبدأ في اتخاذ الإجراءات الإصلاحية مدعومة بتدفقات سيولة تمكنه من إصابة الأهداف المرجوة. وفى التوقيت ذاته، بدأ الصندوق الضغط على السلطات المصرية للبدء في اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا على الاقتصاد المحلى.

هذه الإجراءات من شأنها إحداث المزيد من الفقر وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والقضاء على الطبقة المتوسطة وإحداث آثار اجتماعية غير متوقعة النتائج في ظل ظروف معيشية رفعت معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الدولة المصرية.

السؤال المشروع الذي يطرح نفسه: لماذا يصر صندوق النقد الدولى على التحرير الكامل لسعر الصرف وهو يعلم تمامًا عدم وجود مصادر لتوفير الدولار؟

وهذه المصادر ضمنيًا في الاتفاق تعتمد على تشجيع وإتاحة تمويل إضافى بقيمة 14 مليار دولار من الشركاء الدوليين والإقليميين.

■ هذا الرقم الذي لم يتم الوفاء به أو حتى تقديم النوايا الحسنة تجاهه.. فلماذا يصر الصندوق على انهيار العملة المحلية المصرية من دون أي عائد على الاقتصاد في المقابل؟!

■ وهل يضمن التحرير الكامل توفير الدولار في ظل المعطيات التي تتعامل بها السوق حتى الآن؟

باختصار شديد هذا الإجراء سوف يضع البلاد على حافة أزمة اجتماعية واقتصادية تهدد حياة 110 ملايين إنسان إذا لم يتم اتخاذه بالتوازى مع الالتزام الكامل من الشركاء بضخ موارد التمويل والتخلى عن فلسفة من يبدأ أولاً.

هذا الأمر هو الضمانة الوحيدة التي تسمح ببدء إجراء حزمة الإصلاحات الجديدة، وتجعل الدولة قادرة على تنفيذ السياسات المطلوبة لدعم الصادرات ووضع البرامج التي ترفع المعدلات المستهدفة من السياحة وتنفيذ المشروعات التي تضاعف دخل قناة السويس. ومن ثم يترتب على هذه الإجراءات تدعيم الثقة في الاستقرار الاقتصادى للدولة الذي ينعكس بدوره على نمو تحويلات المصريين مرة أخرى بعد حملات التخويف التي تسببت في تراجع معدلاتها مصحوبة بأجواء من الترقب الحذر جراء احتمالات تراجع قيمة العملة المحلية في ظل ندرة السيولة الأجنبية.

وإذا أجرينا مقارنة سريعة للأرقام قبل بدء البرنامج الجديد.. سنجد أن سعر الصرف في أغسطس 2022 لم يتجاوز 19 جنيهًا وبنهاية أكتوبر بعد بدء الإعلان عن جدية توقيع اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولى، وفى أقل من شهر قفز السعر إلى 24 جنيهًا مدفوعًا بالمعروف عن طبيعة الاتفاقات مع الصندوق والتى تضع سعر الصرف في مقدمة الأولويات بعد إلغاء الدعم والذى اكتوى به الشعب المصرى على مدار السنوات الماضية. كان معدل التضخم 17.9% في سبتمبر 2022 وبعد شهر من إعلان الاتفاق وتحديدًا في نوفمبر 2022 قفز معدل التضخم إلى 21.5% .

أما عن أسعار الفائدة ففى أغسطس 2022 فكان سعر الإيداع 11.25% والإقراض 12.25% ليرتفع في أكتوبر إلى 13.25% للإيداع و14.25% للإقراض. ومنذ التوقيع في ديسمبر وحتى الآن قفز سعر الصرف إلى 30.9 جنيه.. كما قفزت معدلات التضخم إلى 40.3%.. وارتفعت أسعار الفائدة إلى 19.25% للإيداع و20.25% للإقراض.

■ السؤال الذي يطرح نفسه؛ بعد إجراءات التحريك المرن المتتالية، هل خفت حدة الأزمة؟!

■ هل توافرت العملة الأجنبية؟

الإجابة أن الأزمة ما زالت طاحنة.

وفى التوقيت نفسه يؤجل صندوق النقد الدولى مراجعاته ولم يقم بصرف أي شريحة سوى الدفعة الفورية، في حين أن مدة البرنامج 46 شهرًا، لم يتم صرف أي من الشرائح المفترض صرفها حتى الآن.

لتنهال على الجانب الآخر التقارير السلبية، التي ما زلت أصر على أنها موجهة لصالح «صائدى الفرص» الذين ينتظرون الضغط بشكل أكبر على الدولة المصرية لبيع الأصول بأسعار أقل كثيرًا من قيمتها الحقيقية، ونفاجأ بتناغم لضرب جميع أركان الاقتصاد. لتطالعنا «موديز» بتصريحات عن توسيع نطاق المراجعة لخفض تصنيف مصر.. بينما وضع «جى بى مورجان» السندات المصرية تحت المراقبة السلبية من 3 إلى 6 أشهر لإعادة تقييم أهلية هذه السندات لمؤشر «جى بى مورجان» للسندات.. معللًا هذا بشكوى المستثمرين الأجانب في الأوراق المالية الحكومية من صعوبة حصولهم على العملات الأجنبية من السوق.

■ ورغم كل هذا تتمسك الحكومة المصرية باستمرار مواصلة المراجعات من صندوق النقد الدولى لتنفيذ برنامج التمويل والحصول على شرائح القرض. رغم وضوح سيناريو الضغط العنيف على الدولة المصرية.. والذى يجعلنى أتساءل: هل ختم الثقة الذي يمنحه الصندوق للاقتصاد كافٍ لجعل سلطات الدولة تعمل لصالح الدائن وليس لصالح الشعب؟!

إن صندوق النقد الدولى تسبب في كوارث للعديد من الدول التي لجأت إليه ووافق على التعاون معها لأهمية مكانتها الجيوإستراتيجية.

وتسبب في مزيد من الفقر لمواطنيها ولم يأخذ في اعتباره إطلاقًا حقوق الإنسان.

ففى البرازيل تسببت سياسات الصندوق في أن 20% من الشعب يملكون 80% من أصول الدولة و1% يحصلون على نصف الدخل القومى، ونصف الشعب تقريبًا أصبح يتقاضى أجرًا اقل من 80 دولارًا. وفى اليونان بعد أن دفعتها سياسات الصندوق لاتخاذ مجموعة من الإجراءات التقشفية، تسبب الأمر في ارتفاع معدلات البطالة إلى 25% وحدوث اضطرابات سياسية خطيرة إلى أن عجزت اليونان تمامًا عن سداد القرض البالغ 1.5 مليار دولار. ولم تسلم دول جنوب شرق آسيا وتركيا والأرجنتين وغانا وزامبيا ومصر والعراق وتونس والأردن من هذه السياسات الانتهازية التي لن تكترث سوى إلا إلى استيداء الدين حتى لو تسبب هذا في تدهور نوعية حياة المواطنين وتعرضهم لظروف اقتصادية واجتماعية مهينة.

أرى أن أدوات التفاوض مع صندوق النقد الدولى لا بد أن تتسم بمهارات تكتيكية تخدم مصالح الشعب أولاً. فمصر دولة تفى بالتزاماتها ولا تتملص من سداد الديون أو اتخاذ الإجراءات الإصلاحية الجادة. ولكن أن يتم الدفع بالدولة لاتخاذ إجراءات ضاغطة على مواطنيها فهو أمر غير مقبول. ولا بد أن يحرص المفاوض المصرى على بناء المفاوضات وفقًا لما يناسب الظروف الخاصة بالشعب وبما يحافظ على التركيبة السكانية دون تعرضها لهزات عنيفة قد تحدث أزمات أكبر بكثير من الأزمة الاقتصادية.

وأن يتم اتخاذ ما يسمى التقدم التدريجى في الإجراءات في مختلف السياسات سواء في تخفيض عجز الموازنة أو في تخفيض قيمة العملة، وأن يتزامن هذا مع ضخ مستمر للسيولة الأجنبية للدائنين متعددى الأطراف وفقًا لشروط القرض بما يسمح بحصول الدولة المصرية على عوائد عادلة لأصولها المعروضة التي بدأت في التخارج منها لصالح الاستثمارات الخاصة.

ولا بد أن يرفض المفاوض المصرى خيارات محاكم التفتيش الكاثوليكية في العصور الوسطى «إما الخضوع وإما الترك حتى الموت» وهو ما ينتهجه صندوق النقد حرفيًا في حالة الدولة المصرية. كما لا بد أن تكون هناك حلول لتسوية المديونيات بالتخفيف عن الدولة المصرية وبأدوات تتناسب وطبيعتها وأهميتها كدولة حاضنة لتعداد سكانى ضخم ولديها فرص جادة للخروج من الأزمة والتحرك إيجابيًا مدعومة بثروة سكانية شابة وموقع جغرافى متعدد المزايا وموارد وثروات متنوعة. وأن كل ما تحتاج إليه الدولة هو تفاوض سياسى يحفظ حقوقها مع جميع الأطراف ولا يسمح لأى طرف بأن يمارس الضغوط عليها للفوز بمصالح اقتصادية وبالتأكيد سياسية في المستقبل.

وتجارب التاريخ تؤكد هذا التوجه المتعارف عليه من قبل الدائنين. وأخيرًا في الوقت الذي لجأت فيه دول جنوب شرق آسيا عام 1997 لصندوق النقد الدولى بعد أن تعرضت لديون خارجية مرتفعة وعجزت عن الاستمرار، اختارت دولة واحدة عدم اللجوء لصندوق النقد الدولى، وصنعت قصة نجاحها منفردة وهى «ماليزيا».

النموذج الذي يؤكد أن استقلالية اتخاذ القرارات بما يراعى مصالح الشعب تخلق أيضًا قصص نجاح ربما أفضل بكثير من مخططات تركيع الدول بمؤامرات ومؤامرات استعمارية لا تهدف سوى لتحقيق مصالح المستعمرين الجدد.

شاهد أيضاً

أمريكا والمسكوت عنه!

العربية- عبدالمنعم سعيد الشرق اليوم– الدولة تتكون من شعب وسلطة وإقليم؛ ويكون الشعب فى أعلى …