بقلم: محمود حسونة- الخليج
الشرق اليوم– لم يغفر التاريخ لنيرون أنه أحرق روما رغم مرور ما يقرب من ألفي عام على هذه الواقعة، وقد أسقط التاريخ من ذاكرته رواية المؤرخ تاسيتس أن نيرون لم يكن يعزف على قيثارته ويلهو وروما تحترق كما هو متداول، بل كان خارجها وبمجرد علمه عاد إليها لتنظيم المساعدات للمتضررين، بل وقام بدفع أموال من ميزانيته الخاصة لهم، وفتح قصوره للناجين من الحريق، وأمر بتوفير الطعام لهم، وفي أعقاب الحريق قام بوضع خطة تنمية جديدة للمدينة، حتى لا تظل المنازل متلاصقة ببعضها، وتمت إعادة بنائها بشكل أفضل؛ وظل الكتّاب والمؤرخون والأدباء يدينون نيرون ويحمّلونه مسؤولية هذا الفعل، وظل علماء النفس يحللون شخصيته ويؤكدون عدوانيته وأنه ورث نزعته الدموية عن أمه.
نتذكر نيرون وما حصل لروما ونحن نقف أمام هول المشاهد المؤلمة لحرائق الخرطوم، حيث لم يكتفِ المتقاتلون في السودان بكل ما ارتكبوه من جرائم في حق الشعب والدولة على مدار أكثر من خمسة أشهر من قتل وتخريب وترويع للأبرياء ودفعهم لترك بيوتهم والنزوح داخلياً أو الهجرة خارجياً، بل قاموا الأسبوع الماضي بإحراق أهم معالم وأبراج العاصمة، ورأينا صوراً تمزق القلوب نشرتها وسائل الإعلام وازدحمت بها وسائل التواصل الاجتماعي لمدينة حضارية تحترق وألسنة اللهب فيها تطول السماء. تحول وسط مدينة الخرطوم إلى كتلة من النيران، بعد أن أشعل القصف المتبادل النار في المنشآت الحيوية والاستراتيجية، من دون أن يردع ذلك أي من الطرفين.
العالم أدار ظهره للسودان، وآثر ترك العاقّين من أبنائه يتقاتلون ويتناحرون ويقتلون ويشردون ويخربون، تركهم يفعلون ما يؤمرون به، وهو يدرك أن لا أحد من المتصارعين على السلطة سيكون له مكان على خريطة المستقبل، وكأنه لا يريد أن يأتي المستقبل سريعاً، يريده أن يتمهل حتى يتحقق الهدف ويعود السودان إلى زمن العصور الوسطى، خالٍ من البنى التحتية ومقومات الحياة المعاصرة حتى يعاد تشكيله وفق رؤى السادة ممن يصبون الزيت على النار ويدعمون هذا الطرف أو ذاك بالمال والسلاح وأيضاً المرتزقة.
السودان في المستقبل لن يكون هو ذاته السودان اليوم، فبالأمس اقتطعوا منه الجنوب، واليوم يريدون أن يمزقوه ليتحول إلى دويلات أكثر هشاشة، يمكن التحكم بقرارها والاستيلاء على ثرواتها، وقد بدأت سُحُب التقسيم تلوح في الأفق، بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع على مناطق في الخرطوم وأعلنت عن نية تشكيل حكومة فيها، بعد معارك طويلة سيطروا خلالها على ما تيسر من المنشآت الحيوية، وشاركوا مع الطرف الآخر في حرق وتخريب ما عجزوا عن السيطرة عليه، وبعد أن لجأ قادة الجيش والحكومة إلى بورتسودان بنيّة الإدارة من هناك.
لن يهنأ أحد من المتصارعين بغنيمته، وفي حال استمرار هذه الحرب فسوف تتمدد إلى باقي الجغرافيا السودانية، ولن تظل مقتصرة فقط على الجيش وقوات الدعم السريع، بل ستنخرط فيها قوى أخرى تريد أن يكون لها نصيب في الكعكة المرّة، وقد بدأت المعارك تتجاوز حدود دارفور والخرطوم، بعد الاشتباكات التي وقعت الأسبوع الماضي بين الجيش وجماعات مسلحة في بورتسودان، التي ظلت بعيدة عن المعارك من اندلاع الصراع، وظلت المكان الأكثر أماناً، ولكنه الأمان المؤقت، وحال نجحت القوى المختلفة على إشعال شرق السودان وأطرافه؛ فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى حرب أهلية تتجاوز المسلحين وتجذب الموالين لأي منهم من المدنيين. أزمة السودان ألقت بظلال قاتمة على الحوار وتهدد بنقل فوضى الداخل إلى الخارج. ومن المؤكد أن التاريخ الذي لم يغفر لنيرون خطيئته لن يغفر لقادة السودان خطاياهم.