الرئيسية / مقالات رأي / الصين وروسيا وتصحيح الأخطاء

الصين وروسيا وتصحيح الأخطاء

بقلم: عبد الاله بلقزيز – صحيفة الخليج

الشرق اليوم- لم تكن الصّين قد أنجزت ثورتها الكبرى (1 أكتوبر 1949)، حتّى فرضت نفسَها مركزاً عالميّاً جديداً من مراكز الفكرة الاشتراكيّة ونظامها الاجتماعي-السّياسي، جنباً إلى جنب مع مركزها الأصل: الاتّحاد السّويتيّ. وما من شكٍّ في أنّ صيرورتَها مركزاً يَرُدُّ، ابتداءً، إلى حجم الصّين السّكّانيّ والجغرافيّ؛ حيث مواطنو الصّين، آنئذ، يمثّلون تعداداً ما يُجاوِز ضِعفيْ مواطني الاتّحاد السّويتيّ وبلدان أوروبا الشّرقيّة (ما كان يُسَمّى ب”المعسكر الاشتراكيّ”). لكنّه يَرُدّ، في الوقت عينِه، إلى قوّة “الحزب الشّيوعيّ” الصّينيّ ونفوذه في حركات اشتراكيّة عدّة في العالم، وإلى كاريزما زعيم الثّورة ماوتسي تونغ: قائد الثّورة والدّولة والمفكّر الخلّاق الذي نجح في تكييف النّظريّة الماديّة التّاريخيّة مع أوضاع الصّين التي كان الفلّاحون طبقتها الأساس، وما كانت فيها بوليتاريا لتنهض بعمليّة التّغيير، ولا كانت تحكُمها برجوازيّة ليثور عليها العمّال.

نشأ وفاق سويتيّ-صينيّ خلال حقبة وجيزة من العلاقة بين المركزين، وخاصّةً أثناء حكم ستالين. ولم تخرج السّياسات الصّينيّة، خلال هذه الحقبة، عن نطاق التّوجّهات العليا للاتّحاد السّويتيّ، فازدهر، نتيجة ذلك، الحديثُ عن “وحدة المعسكر الاشتراكيّ” العالميّ. بل يمكن ملاحظة صُوَرٍ من ذلك الوفاق مستمرّة حتّى بعد رحيل ستالين، وانعقاد المؤتمر العشرين لِ”الحزب الشّيوعيّ” السّويتيّ وانتخاب خروتشوف، وانطلاق تلك الموجة الهائلة من نقد الستالينيّة ومن نزعها داخل الحزب والدّولة. غير أنّ العلاقات بدأت تأخذ مجرى جديداً، منذ السّنوات الأولى للستّينات، ساءت فيه بالتّدريج وصولاً إلى إعلان القطيعة بين البلدين. ومن حينها، بات مألوفاً أن نسمع عبارات من قبيل “الانشقاق داخل الحركة الاشتراكيّة العالميّة”، فلقد أصبح الأمرُ فيها يتعلّق بمركزيْن لا بمركزٍ واحد.

وما أخطأ الذين وصفوا الأمر على ذلك النّحو، فلقد أثمر الانقسام الصّينيّ-السّويتيّ انقساماً داخل الحركات الاشتراكيّة في العالم نتيجة ارتباطها بهما. للوهلة الأولى، تبدو “الاشتراكيّة” الماويّة – أو “الاشتراكيّة” على المنوال الصّينيّ – أقرب إلى مزاج الحركات السّياسيّة في بلدان الجنوب، ليس فقط لأنّ الصّين من الجنوب، وليس فقط لأنّ التّكوين الاجتماعيّ في مجتمعات الجنوب ذو غلبةٍ فلّاحيّة، كما في الصّين، مما يناسب “اشتراكيّتَها” مع أوضاع تلك المجتمعات؛ بل – أيضاً – لأنّ الماركسيّة الصّينيّة لم تقتصر على بناء الاشتراكيّة فقط، وإنّما طرحت على جدول أعمالها إنجاز مهمّات أخرى، مثل التحرُّر الوطنيّ والوحدة القوميّة، وهي من أمّهات المسائل التي تفرض نفسها في بلدان الجنوب. مع ذلك، لم يتأثّر النّفوذ السّويتيّ في الجنوب، فقد مرَّ من قنوات أحزاب شيوعيّة وأنظمة وطنيّة، وإنْ كان جوبِه من قوى محسوبة على الصّين ستُعْرَف، على نطاقٍ واسع، باسم اليسار الجديد، تمييزاً له عن اليسار التّقليديّ، وفي جملته اليسار الشّيوعيّ المحسوب على المركز السّويتيّ.

لا مِرْيَةَ في أنّ الانقسام الصّينيّ-السّويتيّ، قبل عقودٍ ستّة، لم يأْت بآثاره السّلبيّة على البلديْن فحسب، ولا على بلدان “المعسكر الاشتراكيّ” والأحزاب الاشتراكيّة في العالم فحسب، بل على بلدان الجنوب التي كان عليها أن تنقسم بين المركزين هي الأخرى. والحقّ أنّه انقسامٌ متعدّد المصادر والعوامل، فهو انقسام أيديولوجيّ، وفكري، وانقسام سياسي، ثمّ إنّ عوامله داخليّة وخارجيّة في الوقت عينِه: داخليّة حيث ساهم البلَدان والحزبان في صناعته (وذهبت فيه الصّين بعيداً في اتّهامها الشّيوعيّة السّويتيّة بالتّحريفيّة، وفي اتّهام سياساتها ب”الإمبرياليّة السّويتيّة”)؛ وخارجيّة حيث نجح الغرب في دقّ إسفين في العلاقة بين الدّولتين والحزبين، وقاد كيسنجر، في ذلك سياسة فعّالة في تعميق الخلاف بينهما بدت نتائجها، بجلاء، في الصّدام السّياسيّ الصّينيّ- السّويتيّ عقب الحرب الصّينيّة- اليتناميّة التي اندلعت في عام 1979، (بعد الغزو اليتناميّ لكمبوديا، والتّقارب اليتناميّ- السّويتيّ وطرد الأقليّة الصّينيّة من يتنام، ناهيك عن مشكلات الحدود بين البلدين)، والتي أيّدت فيها موسكو حليفها اليتناميّ. وبالجملة، عاد هذا الانقسام بين المركزين بجزيل الفوائد على الغرب والولايات المتّحدة بخاصّة.

اليوم، بل منذ عودة العلاقات بين الصّين وروسيا إلى طبيعتها، قبل ثلاثين عاماً، تطوي الدّولتان ملفّ ذلك الانقسام النّكد الذي جعلهما في حالٍ من المواجهة السّياسيّة، ومن عدم التّعاون في أبسط تجليّاته. ومنذ أقامتا علاقتهما على أساس مبدأ “الشّراكة الاستراتيجيّة”؛ ومنذ توقيعهما “معاهدة الصّداقة والتّعاوُن” (2001)، تقدّمتا حثيثاً نحو الصّيرورة نواةً لقطب دوليّ جديد يوازن القطب الأمريكيّ- الأوروبيّ. ولقد ساعدهما الغباءُ السّياسيّ الغربيّ على محاصرة روسيا، بسبب الأزمة الأوكرانيّة، في تسريع وتائر الارتفاع بالعلاقة بينهما إلى مرتبةٍ استراتيجيّة فعلاً. هكذا يكون الغرب قد بدَّد كلَّ ما فعله في السّابق، لمنْع تحالفٍ استراتيجيّ بين المركزيْن ليتبرَّع لهما بظرفيّة سياسيّة مثاليّة لترسيخه.

شاهد أيضاً

حكومة نتنياهو..تأزم داخلي وتجاذب خارجي

العربية- طارق فهمي الشرق اليوم– تواجه الحكومة الإسرائيلية أزمة جديدة متعلقة بتسريب معلومات أمنية تورط …