بقلم: رامي الريس- صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم– العلاقات بين لبنان وسوريا ملتبسة تاريخيّاً. لبنان عانى من «مشقة الأخوّة» كما اختار البعض توصيفها. ثمة شقيق لك لا يمكنك التنكر لوجوده ولكن في الوقت ذاته ليس سهلاً أن تتحمّل تصرفاته خصوصاً عندما يبني علاقته معك على أنك خرجت عن طوعه، وهو الأكبر والأقوى، فتراه ينتقم بطرق مختلفة تنزع صفة الأخوّة في التاريخ والجغرافيا والتقاليد الموروثة.
مع توسيع جبل لبنان ليصبح «لبنان الكبير» بترسيم من سلطات الانتداب الفرنسي في الأول من سبتمبر (أيلول) 1920، افترقت السبل بين البلدين واختلفت النظم السياسيّة والاقتصاديّة. وبعد الاستقلال سنة 1943، اتجه لبنان نحو ديمقراطيّة برلمانيّة شبه متفلتة من أي قيود (سياسياً واقتصادياً)، بينما ذهبت سوريا إلى عصر الانقلابات العسكريّة مسجلة أعلى عدد من الانقلابات والانقلابات المضادة وانضمت بذلك إلى المناخ العربي العام في طغيان العسكريتاريا على الحكم وتغيير وجه المنطقة.
صحيحٌ أن الديمقراطيّة اللبنانيّة كانت دائماً مشوشة وضعيفة وغير مكتملة العناصر، ولكنها – مع كل مشاكلها الهيكليّة – وفّرت مناخاتٍ من الحريات العامة والخاصة لا سيما في مجالات النشر والرأي والصحافة والتجمع، وأتاحت لهيئات المجتمع الأهلي والجمعيّات أن تعمل بهوامش واسعة من الحريّة (وقد وصلت «الفوضى» في هذا المجال إلى أن بعضها دخل إلى المجالات الحيويّة للدولة واقتحم مسؤولياتها).
هذه «الواحة» اللبنانيّة – إذا صح التعبير (نظراً للشوائب الكثيرة التي اعترت النظام اللبناني في تلك الحقبة خصوصاً لناحية السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الجائرة وغياب الإنماء المتوازن والإهمال المتعمد للأرياف والمناطق النائية) شكلت موقع إزعاج للحكومات السوريّة المتعاقبة التي لم تكن تحتمل فكرة أن ينطلق من لبنان أصوات معارضة لسياساتها وكانت تصفها دائماً بأنها أرض «حياكة المؤامرات»، ومعلوم عن الأنظمة الديكتاتوريّة افتعالها الدائم لنظريات المؤامرة وسعيها الحثيث لبناء سيناريوهات متخيلة أحياناً بما يتماشى مع مصالحها الخاصة.
في عام 1950، على سبيل المثال، وبالرغم من الاعتبارات الاقتصاديّة التي أملت الانفصال الجمركي ومن ثم القطيعة الآحاديّة مع لبنان التي اعتمدتها الحكومة السوريّة واستمرت زهاء ثلاث سنوات؛ فإنها عكست في نهاية المطاف مناخاً من الضيق السوري والانزعاج من خروج لبنان عن «الطاعة» وسيره في خط الاستقلال السياسي ولاحقاً الاقتصادي والنقدي.
ولمن يذكر الحقبة التي حصلت فيها المباحثات السياسيّة لإنهاء الحرب الأهليّة في لبنان والتي تجسدت في اتفاق الطائف (1989) كان النظام السوري شديد الحرص على تضمين النص لأي تفاهم سياسي ما يشير إلى عدم استخدام الأراضي اللبنانيّة منطلقاً ضد ما يمس أمن سوريا. وجاء حرفياً في القسم الرابع من الاتفاق: «(…) لأن تثبيت قواعد الأمن يوفر المناخ المطلوب لتنمية هذه الروابط المتميزة، فإنه يقتضي عدم جعل لبنان مصدر تهديد لأمن سوريا وسوريا لأمن لبنان في أي حال من الأحوال. وعليه فإن لبنان لا يسمح بأن يكون ممراً أو مستقراً لأي قوة أو دولة أو تنظيم يستهدف المساس بأمنه أو أمن سوريا، وإن سوريا الحريصة على أمن لبنان واستقلاله ووحدته ووفاق أبنائه لا تسمح بأي عمل يهدد أمنه واستقلاله وسيادته».
مهما يكن من أمر، فإن النظام السوري، لا سيما بعد سيطرة حزب البعث وإحكام الرئيس الراحل حافظ الأسد قبضته على الحكم بدءاً من عام 1970 (التي اختار النظام تسميتها حركة تصحيحية بينما هي كانت انقلاباً على الانقلاب وتصفية حسابات داخلية بين الفريق الواحد) عاد و«انتقم» من الموروثات القديمة من خلال بسط سيطرته على لبنان وممارسة الوصاية التامة على حياته السياسية والوطنية خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية سنة 1991 بحيث كوفئ بالسيطرة على لبنان جرّاء دعم قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن لإخراج قوات الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت.
اليوم، اختلفت التحديات في العلاقة بين لبنان وسوريا. بعد الانسحاب العسكري السوري من لبنان في 26 أبريل (نيسان) 2005 عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لم تعد الإشكاليات القائمة كما كانت في الماضي، والتدخل السوري المباشر في اليوميات السياسيّة خفت وطأته طالما أن حليف النظام، «حزب الله»، يؤمن «المصالح» المطلوبة.
مع اندلاع الثورة السوريّة في عام 2011، وتدفق النازحين إلى لبنان (كما الأردن وتركيا وسواهما) اتخذت التحديات أشكالاً مختلفة وضاعف من هذه التحديات المقاربات المريضة التي اعتمدت من قبل ما يُسمّى «المجتمع الدولي» الذي لا يمانع مكوثهم في لبنان على المدى الطويل، وفي المخاوف التي تبرز حيال عودة بعض النازحين وتعرض حياتهم للخطر أو الاعتقال لأسباب سياسيّة.
كما أن التهريب على الحدود والاستفادة من حالة التراخي وعدم القدرة على ضبطها من الجانب اللبناني لكثير من الأسباب جعلا حجم الاستغلال أكبر بشكل مثير للقلق خصوصاً مسألة تهريب المخدرات التي تُضبط بكميات كبيرة ولكن، مع ذلك، تتواصل عمليات التهريب بشكل مخيف.
يستطيع لبنان وسوريا بناء علاقات سوية وأخوية بحكم الجيرة والتاريخ والجغرافيا، ولكن هذا يتطلب وقف التدخلات بالشؤون الداخلية وعدم السعي للسيطرة السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية. الحريات في لبنان وسوريا مرتبطتان. ألم يكتب سمير قصير عن «ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان»؟