بقلم: منى عبد الفتاح- اندبندنت عربية
الشرق اليوم– بعد خمسة أشهر من اندلاع الحرب السودانية في 15 أبريل (نيسان) الماضي، بدت هذه الفترة كفيلة بأن يصبح السودان على حافة هاوية التسلح بسبب انتشار الأسلحة واحتمال تمددها إلى مناطق السودان المختلفة، وعلى مدى ثلاثة عقود من حكم عمر البشير، قبل انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، تراكمت الأسلحة بسبب نشاط عدد كبير من الحركات المسلحة، وتعدت ساحات قتالها لتتسلل إلى أيدي المواطنين.
ويعد الحد من انتشار الأسلحة أحد التحديات الرئيسة في السودان منذ ذلك الوقت، ويتفاقم مع استمرار الحرب، إذ نمت أسواق يعرض فيها مسلحون مجموعة من الأسلحة المتنوعة وذخائر للبيع، بحسب ما أظهره مقطع فيديو متداول أخيراً، إضافة إلى مشاهدات المواطنين الذين عبروا عن قلقهم، خصوصاً مع الجدل القائم بضرورة اقتناء السلاح الناري لأغراض الحماية والدفاع عن النفس والممتلكات بسبب غياب تام للقوات الأمنية والشرطة، وهو ما يتعارض مع حقيقة أن تداول الأسلحة والإقبال على شرائها سيؤدي بدوره إلى مزيد من التفلتات الأمنية وانتشار العنف، إضافة إلى تشجيعه على نمو سوق السلاح.
قبل اندلاع الحرب لم يخل المشهد من انتشار كثيف للقوات الحكومية و”الدعم السريع”، والحركات المسلحة الأخرى الآتية من إقليم دارفور ومنطقة جبال النوبة والنيل الأزرق بمدرعاتها التي فاضت بها العاصمة الخرطوم وبعض المدن الأخرى. وكان التبرير لمظهر العسكرة ذلك هو إكمال “بند الترتيبات الأمنية” المنصوص عليه في اتفاق السلام الذي وقع بجوبا في أكتوبر (تشرين الأول) 2020. وسط الضجيج السياسي العالي، لم يكن هناك من يصغي السمع إلى كثير من الإنذارات بأن هذه المظاهر ستقود إلى كارثة، أقلها “انتشار الأسلحة”، في مناطق عدة، حتى تلك التي لم تألف صراعاً مسلحاً من قبل.
انتشار عشوائي
في فبراير (شباط) الماضي، كشف عضو اللجنة العليا لجمع الأسلحة الفريق عبدالهادي عبدالله، لوكالة السودان للأنباء (سونا) عن وجود ثمانية ملايين قطعة سلاح بين الخفيفة والصغيرة، بأيدي المواطنين وأصبحت لكل مجموعة قبلية أسلحتها. وأضاف عبدالله في ورشة “الجهود الوطنية لجمع السلاح والعربات غير المقننة ومحاربة الظواهر السالبة” أن “الانتشار العشوائي للأسلحة يعد أبرز مهددات الأمن والسلام بالبلاد، حيث يساعد في الاتجار بالبشر وتجارة المخدرات والتهريب والحروب القبلية”، موضحاً أن “اللجنة العليا لجمع السلاح تمكنت من جمع نحو 300 ألف قطعة سلاح في الفترة ما بين عامي 2016 و2020 وتمت إبادتها”.
وكانت الحكومة منذ عام 2020 كلفت لجنة لجمع السلاح غير المرخص، بدأت إجراءات تنظيم السلاح المنتشر بين الحركات تمهيداً لدمجها في القوات المسلحة، ولكن تعثرت خططها نسبة لقلة الإمكانات، كما أنها كانت في حاجة إلى التنسيق مع منظمات إقليمية ومنظمات المجتمع المدني السودانية، ثم أعيد تشكيل تلك اللجنة برئاسة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي حينذاك محمد حمدان دقلو “حميدتي” وتكوين لجان فنية بالولايات برئاسة الولاة وتوفير الدعم الفني والميزانيات للجنة لوقف انتشار السلاح.
لم تمض جهود “جمع السلاح” كما كان مخططاً لها، وكان طبيعياً عند اندلاع الحرب، أن يكون الشيء المتاح أمام الجميع عسكريين ومدنيين هو السلاح. وتواترت الأحداث، إذ نهب سكان مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، أكثر من تسعة آلاف قطعة سلاح من مخازن الشرطة، فاقمت من القتال الإثني وزيادة وتيرة العنف، واستخدم أيضاً في السرقة والنهب من المواطنين والمحال التجارية ومؤسسات الدولة والمنظمات الأجنبية، كما كشفت وكالة الصحافة الفرنسية (فرانس 24) أن شرق السودان يشهد حركة نشطة في الاتجار وتهريب الأسلحة، خصوصاً في المنطقة الحدودية مع إريتريا وإثيوبيا.
وأوردت وكالة “سونا” في أغسطس (آب) الماضي، أن “قوة من الجيش في ولاية كسلا شرق البلاد، تبادلت إطلاق النار مع مهربين كانوا يستقلون شاحنتين محملتين بالأسلحة، واحدة جنوب ميناء سواكن على البحر الأحمر، وأخرى قرب كسلا، كانتا في طريقهما إلى الخرطوم لصالح قوات (الدعم السريع)”، والتي نفت هذه التهمة، ووجهت اتهامها إلى الجيش بعسكرة المواطنين.
جيوش حزبية
خلال نظام البشير صنف السودان ضمن أكبر مصنعي الأسلحة والذخيرة في أفريقيا، التي انتعشت في تسعينيات القرن الماضي بمساعدة الصين وإيران، وتزامن ذلك مع بداية الإنتاج النفطي في السودان، وأسست “هيئة التصنيع الحربي” التي شملت مجمعات للصناعات العسكرية وباتت مسرحاً للقتال في الحرب الحالية.
وقبل الحرب في دارفور عام 2003، اتهم نظام البشير بأنه كان يمد زعيم “جيش الرب للمقاومة” في شمال أوغندا جوزيف كوني بدعم عسكري في حربه ضد نظام يوري موسفيني الذي كان يدعم بدوره “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة جون قرنق، وتحول السودان إلى دولة مدججة بالسلاح من الصناعات المحلية بحسب “مشروع مسح الأسلحة الصغيرة”، وما تجلبه الحركات المسلحة من دول الجوار.
بعد توقيع اتفاق السلام (نيفاشا) 2005 مع قادة جنوب السودان، والدخول في اتفاقات سلام عدة مع الحركات الدارفورية، اعترف وزير العدل حينذاك محمد بشارة دوسة في عام 2010 بأن “انتشار السلاح بدارفور على نطاق واسع يعوق تنفيذ العدالة في الإقليم”.
في ذلك الوقت بينما كان قادة الحركات المسلحة يتفاوضون مع مسؤولين حكوميين في نظام البشير في عواصم عدة أفريقية وعربية، كانت فصائل معارضة لعملية التفاوض مع الحكومة تنشط في عمليات القتل والنهب المسلح، ويقابلها من الجانب الحكومي ثلاثة قطاعات، الأول “قوات الدفاع الشعبي”، وهي ميليشيات شكلتها “الجبهة الإسلامية” تابعة لنظام البشير، نشطت في القتال بجنوب السودان ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان. والثاني “الشرطة الشعبية”، وهي قوات شبه عسكرية ذات طابع أمني. أما القطاع الثالث فهو “حرس الحدود”، وهي قوات أنشأتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي باسم “المراحيل” كقوات موازية وامتداداً لتسليح القبائل في كردفان ودارفور عامي 1987 و1988، بإشراف اللواء فضل الله برمة ناصر، رئيس حزب الأمة الحالي، وسميت في مرحلة أخرى خلال نظام البشير بـ”الجنجويد”، ثم “قوات الدعم السريع”.
ولهذا صنف مراقبون أن حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم السابق هو أكبر حزب مسلح في السودان، ويأتي في المرتبة الثانية حزب “الأمة” بقيادة الصادق المهدي الذي أسس “جيش الأمة” كجناح عسكري للحزب، ناضل به ضد نظام الإنقاذ من دولة إريتريا.
طبيعة قبلية
قال الموجه السابق بأكاديمية نميري العسكرية العليا الصادق عبدالله “طبيعة نظام السودان القبلي فرض عليه الدخول في معارك كثيرة ونزاعات على المرعى والزراعة والأراضي، ففي حروب الممالك القديمة مثل مملكة سنار ودارفور والداجو والتنجر وغيرها كانت الحروب والنزاعات تدار وتحسم بالسلاح الأبيض، وبعد أن قامت الثورة المهدية كان السلاح أيضاً بدائياً مكوناً من السيوف والحراب”.
وتابع الصادق “في معركة كرري 1898 التي استخدم فيها الجيش الإنجليزي بقيادة كتشنر باشا مدفع المكسيم كان يجرب للمرة الأولى، وقتل في الساعات الأولى فقط نحو 16 ألف مقاتل من أنصار محمد أحمد المهدي قائد الثورة، كما استخدم المستعمر الهيلكوبتر ضد السلطان علي دينار قبل الحرب العالمية الأولى”.
وأشار الموجه السابق بأكاديمية نميري إلى أن “السلاح الناري كان منظماً بقوانين حتى تسعينيات القرن الماضي، وأية قطعة سلاح كانت ترصد بواسطة المباحث العامة ولدى سلاح الأسلحة في القيادة العامة في الخرطوم، ولما أنشأ التصنيع الحربي ومنه منظومة جياد للصناعات الحربية، كانت خلال تلك الفترة المعارك على أشدها في جنوب السودان فصنعت كميات كبيرة، وكانت الأسلحة تؤخذ من المصنع إلى أرض المعركة مباشرة دون أن يتم تسجيلها، ثم نشأ التمرد ضد الدولة السودانية، وتفاقم انتشارها”.
في ما يتعلق بالسلاح الخارجي ذكر عبدالله “زود الرئيس الليبي معمر القذافي الصادق المهدي في نهاية سبعينيات القرن الماضي بالأسلحة لتنفيذ غزوة المرتزقة ضد نظام النميري، كما كانت هناك قوات شبه عسكرية من عرب الصحراء الكبرى هي الفيلق الإسلامي العربي التي ترأسها ابن عمر زعيم المعارضة التشادية، عندما قرر الاستقرار بإقليم دارفور، وشكلت القوات برعاية ليبيا عام 1972، وكانت جزءاً من حلم معمر القذافي بإنشاء دولة الساحل الإسلامية الكبرى، مما أسهم في نشر السلاح بالإقليم”. وأضاف الصادق “ثم دعم القذافي جون قرنق عام 1983 وأسقط كثير من الحاميات العسكرية في جنوب السودان”، منوهاً إلى أن “كميات كبيرة من الأسلحة دخلت السودان في الحرب الحالية مثل أسلحة القناصة، ولم تكن هناك رقابة كاملة لحماية المدنيين، بينما كانت الرقابة على الأسلحة في السابق من السلطات إضافة إلى رقابة السلاطين والنظار وشيوخ القبائل في الأحياء”.
حيازة السلاح
من جهته قال المتخصص في الشأن العسكري المعز العتباني “عندما تكون الدولة في حالة سلم وبسط الأمن واحترام القانون يكون هناك حساب وعقاب بحسب منطوق مواد القانون، فيتم تطبيقه على الجميع دون استثناء، ومع كل هذه الاعتبارات تظل حيازة السلاح مرتبطة بالقانون بما هو مسموح به وغير مسموح، والقائمة التي يسمح فيها القانون بامتلاك السلاح طويلة، تتعدد فيها أنواعه وتحرم أخرى وهي فئة أسلحة القوات النظامية”. وأضاف العتباني “تملك أي سلاح دون ترخيص محرم على الكل ويقع تحت طائلة القانون من يوجد عنده سلاح غير مرخص أو سلاح القوات النظامية والأمنية، ويتعرض للاشتباه والقبض أو الاعتقال والتفتيش والاتهام، وإذا ثبت عنده يعاقب، وهذه مسؤولية الشرطة والمباحث الجنائية وجهاز أمن إدارة السلاح وبمعاونة الاستخبارات العسكرية والشرطة العسكرية والقضاء العسكري”. وتابع “على الدولة إعطاء هذا الموضوع أهمية قصوى لعدم انتشار السلاح غير المرخص لأنه يكون حافزاً لارتكاب الجرائم أو القيام بالنهب المسلح والترويع، خصوصاً في المناطق التي تقل فيها سلطة الدولة أو استحواذ جهة متمردة على منطقة معينة داخل الدولة تعجز السلطة على السيطرة عليها أو السيطرة على الحدود والداخل وغيرها”.
وأوضح العتباني “إذا قلنا إن كل ذلك يتم في حالة السلم، فإنه في حالة الحرب يختلف الوضع كلياً، إذ يعرف كل من يحمل سلاحاً وهو غير تابع للمنظومة الأمنية بأنه يحمل هذا السلاح ضد الدولة وسلطتها، وعلى أجهزة الدولة الأمنية النظامية من الجيش والشرطة والأمن محاربة هذا النوع من التسلح والتمرد لنزع السلاح الذي تملكه بالقانون كما في حالة تمرد (الدعم السريع)، أو من دون قانون مثل من يحمل السلاح من المجندين الذين تم تجنيدهم أثناء الحرب، ونزع السلاح في الحالتين واجب الدولة يجب القيام به لاستمرار السلام والأمن”.
سياق استراتيجي
عندما دعا الفريق البرهان كل من يستطيع حمل السلاح إلى أن يقوم بذلك للدفاع عن نفسه، واستجابت وزارة الدفاع بأن أعلن الوزير المكلف الفريق يس إبراهيم في مايو (أيار) الماضي، عن استعداد الجيش لتسليح المدنيين والمتقاعدين لتأمين أنفسهم والعمل وفق خطط المناطق العسكرية التي يتسلحون منها في بيان جاء فيه “بعد حالات القبض التي نفذتها قوات (الدعم السريع)، على متقاعدي القوات المسلحة والنظامية من ضباط وضباط صف وجنود وكل القادرين على حمل السلاح، بالتوجه إلى أقرب قيادة عسكرية لتسليحهم تأميناً لأنفسهم وحرماتهم وجيرانهم وحماية أعراضهم والعمل وفق خطط هذه المناطق”.
ودعا حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي، مواطني الإقليم، بمن فيهم النساء وكبار السن، إلى حمل السلاح للدفاع عن ممتلكاتهم، على أن تساندهم الحركات المسلحة، ولكن لم تسر أي من أي من هذه الخطط كما رتب لها، فأصبح تسلح المواطنين يتم من طريق السوق السوداء ودون أية ضوابط قانونية، ليعود وزير الدفاع ويؤكد بعد ذلك أن “حرب المدن لا حدود زمنية لوضع أوزارها”.
من جانبه قال المتخصص في مجال العلوم السياسية بالجامعات السودانية الأمين فتح الرحمن “يلعب المدنيون دوراً معقداً خلال النزاعات المسلحة، فهم ضحايا، وحينما تعجز الدولة عن حمايتهم يتحولون إلى جناة يندمجون في الحرب بأية صورة كانت”.
ونوه فتح الرحمن إلى أن “طبيعة الحرب الحالية، أحدثت خللاً واضحاً في مفهوم حماية المدنيين، لأنها حرب غير متكافئة كحال معظم الحروب الأهلية التي تتم بين القوات المسلحة وإحدى أذرعها السابقة، فمن وجهة نظر السياسة الأمنية، يمكن أن تفسر مشاركة المدنيين في الحرب في سياق استراتيجي أوسع”.
وأضاف المتخصص في العلوم السياسية “شهد السودان نزاعات سابقة بسبب الاضطرابات السياسية والتهميش الاقتصادي، وضعت مجتمعاتها ضد بعضها مما أدى إلى هذه المأساة الإنسانية”.
خروقات أمنية
لم يخل تاريخ السودان من عمليات جمع السلاح لأهداف سياسية، فخلال عقد التسعينيات تم ذلك في إقليم كسلا شرق السودان، وفي عام 2017 كان مسرح جمع السلاح بدارفور، كما أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في ولاية شمال كردفان استمرت لأشهر، وحددت المرحلة الطوعية لجمع السلاح بعدها لوحت بالجمع القسري.
ولم تنجح عمليات جمع السلاح في غرب البلاد لأنها ارتبطت بتصفية حسابات بين قائد “الجنجويد” موسى هلال، وقائد “الدعم السريع” حميدتي، انتهت بقبض الأخير على هلال وإيداعه السجن، حينما هدد بحرق المناطق التي يسيطر عليها حميدتي، ولم يفرج عنه إلا عام 2021.
من جانبها عزت متخصصة القانون الدولي بالجامعات السودانية آمال ساتي عوامل الفشل في جمع السلاح من أيدي المدنيين والمجموعات القبلية إلى “تكاثر الحركات المسلحة إلى نحو 90 حركة، بسبب تركيز اتفاق السلام على تقاسم السلطة والمناصب والثروة، وهو ما أسهم في حدوث انشقاقات، كما أنشأ آخرون حركات مسلحة جديدة حتى يحصل قادة الحركات الجدد على نصيبهم كل على حدة”. وبينت “هناك عامل خارجي يتمثل في الأسلحة المتسربة من حروب دول الجوار مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا وغيرها”.
وفي ما يتعلق بمعارك المنشآت العسكرية كأحد عوامل انتشار الأسلحة قال منسق “مشروع مسح الأسلحة الصغيرة” المقيم في نيروبي، لمنبر الدفاع الأفريقي خريستوفر كارلسون “أينما حدثت خروقات أمنية في منشآت تخزين الأسلحة، فعندئذ قد يعبر بعض هذا العتاد الحدود ويدخل دور الجوار، وتظل هذه الاحتمالية قائمة طالما استمر هذا الصراع وما دامت مخازن الأسلحة وأمنها موضع شك”.