بقلم: ماجد كيالي- النهار العربي
الشرق اليوم– كثيرة هي المقالات والدراسات التي تحدثت عن الإجحافات المتضمنة في اتفاق أوسلو (1993) بالنسبة إلى حقوق الشعب الفلسطيني، والثغرات الكثيرة التي اعتورته، والتي ساهمت فيها، طوال السنين الـ30 الماضية، لذا فإن هذه المقالة ستنطلق من فرضية مفادها أن القيادة الفلسطينية التي وقّعت على ذلك الاتفاق، وفرضته على الشعب الفلسطيني، كانت مصيبة في خيارها، أو أنه كان الخيار الوحيد المتاح أمامها (والحال ليست كذلك طبعاً).
بيد أن تلك النقلة الافتراضية تثير إشكاليات أو أسئلة أخرى، مثلاً، فبعد ثلاثين عاماً، هل أوضاع الشعب الفلسطيني، في ظل السلطة الفلسطينية، في الداخل والخارج، أفضل أم أسوأ، بالقياس إلى السابق؟ وهل وضعه الكياني في السلطة، أفضل من وضعه الكياني، الذي كان متمثلاً في المنظمة من قبل؟ ثم هل كان قيام السلطة يستوجب التضحية بمكانة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وكقائد للشعب الفلسطيني وكمعبّر عن قضيته، قبل إقامة الدولة المستقلة؟
أيضاً، من الناحية الهوياتية، هل باتت الهوية الوطنية الفلسطينية أكثر رسوخاً بعد إقامة كيان السلطة أم أنها باتت عرضة للاهتزاز وللتفكك، مع تركيز ولاية السلطة على فلسطينيي الأرض المحتلة (1967) ونشوء أولويات لكل تجمع فلسطيني (في الداخل والخارج)، ومع حال الانقسام الجغرافي والسياسي بين الفلسطينيين، وفي كيانهم السياسي، بين سلطة “فتح” في الضفة وسلطة “حماس” في غزة، واختفاء دور مجتمعات اللاجئين؟
ثم هل مكانة القضية الفلسطينية، بعد إقامة السلطة، باتت أفضل في الأجندة العربية والدولية، أم أنها تتعرّض للتبدد والتآكل، بدلالة الموجة الثانية من علاقات التطبيع مع إسرائيل، التي باتت تتم بمعزل عن أي تقديمات إسرائيلية بخصوص حقوق الفلسطينيين؟
على الصعيد الإسرائيلي، هل ازداد الاحتلال، والاستيطان، وسلب أراضي الفلسطينيين، في القدس والضفة، بعد إقامة السلطة، أم نقص؟ وهل بات جيش الاحتلال والمستوطنون في الضفة أكثر أمناً أم أقل أمناً؟ أيضاً، بالعكس، هل بات الفلسطينيون أكثر أمناً وحرية أم أقل في ظل السلطة وأجهزتها الأمنية؟ وماذا عن وضع فلسطينيي 48، فهل وضعهم أفضل إزاء مقاومة السياسات العنصرية الإسرائيلية ضدهم، في ظل كيان السلطة، أم أن ذلك تعرض للاهتزاز؟
الأسئلة، أيضاً، تشمل إدارة القيادة للوضع الجديد، بعد تحولها من قيادة حركة تحرر وطني، إلى سلطة، فإذا بها سلطة تحت الاحتلال، وفوق ذلك فهي بدت، إزاء شعبها، مثل أي سلطة في العالم العربي، مع سمات أمنية، وقمعية، وغياب للمشاركة السياسية وللإطارات التشريعية. فالرئيس محمود عباس، مثلاً، في أواخر الثمانينات، وهو يجمع الرئاسات الثلاث (المنظمة والسلطة وفتح) في شخصه، منذ عام 2005، أي منذ 18 عاماً، وهو حل مجلس القضاء الأعلى، والمجلس التشريعي، وبات صاحب القرار الأوحد في القيادة الفلسطينية.
الافتقاد للدستور والقانون، مع الهيمنة السلطوية، يؤدي إلى شيوع الفساد، والمحسوبية (“السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”)، وهي في الوضع الفلسطينية متفشية، بالاعتماد على الريع المتأتي من الدول المانحة، وعوائد الضرائب، وليس من ثروات باطنية أو إنتاجية، ما يغذّي قاعدتها الاجتماعية بعشرات ألوف المتفرغين في الفصائل، وفي السلكين المدني والأمني في السلطة، ما يجعل تلك القاعدة أقرب للموالاة، وأميل لاستمرار الوضع القائم، أياً كانت مضاره على الشعب وحقوقه الوطنية، في ظل المعطيات السائدة.
القصد من كل ما تقدم القول بأن ما أوصل الفلسطينيين إلى هذه الحال من الاختلاف والانقسام والتدهور، ليس فقط اتفاق أوسلو، رغم كل علاته وثغراته، بل الأزمة المستعصية في الحركة الوطنية الفلسطينية التي نشبت في منتصف السبعينات، بعدما لم يعد بإمكانها أن تضيف أي إنجاز جديد، بقواها الذاتية.
وبديهي أن ثمة دوراً بارزاً لإسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الأميركية، بعدم تمكين الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية المشروعة، وعدم تمكين السلطة من القيام بمهماتها، إلا أن طريقة عمل القيادة الفلسطينية، في إدارتها للوضع الفلسطيني، داخلياً وخارجياً، أسهمت في التسهيل عليهما.
وفي الواقع، فقد كان هدف إسرائيل من ذلك الاتفاق تجزئة قضية فلسطين، وتفكيك وحدة شعبها، وتجويف حركتها الوطنية، وتالياً تحرير نفسها من صورتها كدولة استعمارية تسيطر على شعب آخر بالقوة، والتخفّف من مسؤولياتها السياسية والأمنية والاقتصادية والأخلاقية كدولة احتلال؛ وهذا حصل، بسبب السياسات التي انتهجتها، وبحكم طريقة القيادة الفلسطينية في العمل، ما سهّل عليها تلك الاستهدافات.
في المحصلة، فإن اتفاق أوسلو لم يغيّر الواقع السياسي الفلسطيني، فقط، محولاً حركة التحرر الوطني إلى سلطة، بل إنه غيّر الواقع الثقافي أيضاً، إذ أحدث قطعاً بين الثقافة الوطنية التحرّرية التي تنبني على المقاومة والذاكرة والحقيقة والعدالة، إلى ثقافة السلطة التي تنبني على ثقافة النسيان والتعايش مع الاحتلال، واعتبار الصراع مع إسرائيل على جزء من الأرض، وعلى سيادة سلطة في ذلك الجزء، ولو على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
مع كل تلك الملاحظات، يفترض التحذير من الافتراض أن حال الحركة الوطنية الفلسطينية من دون الاتفاق كان سيكون أفضل من وضعها معه، لأن تلك الحركة بعد الخروج من لبنان، وانتهاء الظاهرة المسلحة من الخارج (1982)، كانت تقادمت واستهلكت، ولم يعد لديها ما تضيفه، أي كان ثمة جمود في التفكير السياسي وفي بنى الكيانات الفلسطينية، أي الفصائل والمنظمة، وهو ما نعيشه حتى اليوم.
الفكرة هنا أن صراعاً ممتداً ومعقّداً كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يقرر في مصيره أفراد أياً كانوا، ولا اتفاقيات أياً كانت، فذلك يتقرّر بحسب طبيعة الصراع، وينتفي بانتهاء أسبابه (جلاء بريطانيا عن الهند) أو بتغيّر طبيعته (تفكّك الاتحاد السوفياتي) أو بتحوّل أحد أطرافه (كما جنوب أفريقيا) وهو وضع تقرّر بشأنه الشعوب.
صراعات معقدة كهذه تحتاج تغيراً في موازين القوى، والمعطيات المحيطة الدولية والإقليمية والعربية، كما تحتاج تغيرات عند الطرفين المعنيين مباشرة (إسرائيل والفلسطينيين)، وإلى تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية ثقافية، وإلى تقوّض أو تفكك المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً استعمارياً وعنصرياً ودينياً.