بقلم: علي قاسم – صحيفة العرب اللندنية
الشرق اليوم- المشروع الذي يطمح إلى تأسيس “شرق أوسط أكثر استقرارا وازدهارا” ليس أكثر من بالون اختبار تريد واشنطن من ورائه التأكد من أن شعرة ود ما زالت تربط بينها وبين دول الشرق الأوسط.
من يصدق شريكا مثل هذا؟
الصورة أفضل من مقال. من تابع تعابير وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي يدرك أن الولايات المتحدة تحضر القمة هذه المرة وهي تبحث عن وسيلة لتلافي الهزيمة أو التقليل من حجمها.
ما يفرق بين إيران وتركيا والسعودية والهند والصين قد يكون أكبر مما يجمع بينها. وقد تكون المسافة بين هذه الدول وبين البرازيل والمكسيك بعيدة جدا، ولكن هناك ما يقارب بينها. وهذا ما أثبتته نتائج قمة بريكس التي انعقدت الشهر الماضي في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا.
نظام الحكم العالمي التقليدي “أصبح معطّلا وقاصرا”، ودول بريكس “أصبحت على نحو متزايد قوة راسخة في الدفاع عن العدالة الدولية”.
لم يكن على الرئيس الأمريكي أن ينتظر سماع ما قاله تشن شياودونغ السفير الصيني في بريتوريا للصحافيين، ليدرك أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن سياسة التنمر لم تعد تجدي في التعامل مع دول العالم.
أحد أكبر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة هي مجموعة بريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. بأعضائها الخمسة فقط تشكل المجموعة 42 في المئة من سكان العالم. بلغت مساهمتها 31.5 في المئة في الاقتصاد العالمي بنهاية 2022.
تعلم الولايات المتحدة أن الأمور لن تقف عند هذا الحد، وأنها لن تستطيع أن تتجاهل موقف دول عديدة (40 دولة على الأقل من بينها إندونيسيا وبوليفيا والأرجنتين وتركيا والبحرين والجزائر) كشفت علنا عن رغبتها في الانضمام إلى دول المجموعة. هناك 20 دولة من بينها قدمت طلبا رسميا للعضوية، وافقت المجموعة على ضمّ 6 دول منها، هي السعودية، الإمارات، إيران، إثيوبيا، الأرجنتين ومصر.
وتقود المجموعة حملة لاستبدال الدولار الأمريكي بعملة مشتركة خاصة بها بحلول عام 2030.
رغم تعابير الوجه المتجهم، كان على الرئيس الأمريكي أن يحمل في جعبته مفاجأة يطرحها على هامش قمة مجموعة العشرين، يختبر من خلالها حجم الهوة التي تسببت بها سياسات واشنطن، وذلك بطرح مشروع يربط الهند وأوروبا من خلال خطوط السكك الحديد والنقل البحري عبر الشرق الأوسط. وهو ما اعتبر رداً على “طرق الحرير” الصينية الجديدة.
المشروع الذي يطمح إلى تأسيس “شرق أوسط أكثر استقرارا وازدهارا وتكاملا” ويتيح “فرصا لا نهاية لها” للطاقة النظيفة والكهرباء النظيفة ومد الكابلات لربط المجتمعات، ليس أكثر من بالون اختبار تريد واشنطن من وراء إطلاقه التأكد من أن شعرة ودّ مازالت تربط بينها وبين دول الشرق الأوسط.
رغم ذلك حرصت الهند، الدولة المضيفة للقمة، على تثمين المبادرة الأميركية ورأت فيها “بذورا تجعل أحلام الأجيال المقبلة أكبر”.
وهو أيضا ما حرص عليه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي قال إن “المشروع الاقتصادي سيسهم بتطوير البنى التحتية التي تشمل سككا حديدية”، مؤكدا أن ذلك “الممر الاقتصادي سيوفر فرص عمل طويلة الأمد”.
واضح أن “الممر الأمريكي” رد مباشر على مبادرة “الحزام والطريق” الصينية من خلال خلق طريق منافسة تكون الهند مركزها وتنطلق بموازاة المشروع الصيني وتنافسه على أهم نقاط مروره من الخليج إلى أوروبا.
الترحيب بالمشروع الأمريكي لم يحجب الخلافات حول قضايا ساخنة أخرى، في مقدمتها الحرب الروسية – الأوكرانية، كاشفا ولأول مرة عن ضعف الموقف الأمريكي.
بعد أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي و15 مشروع نص اكتفى البيان المشترك الصادر عن القمة برفض “استخدام القوة” في أوكرانيا لتحقيق مكاسب ميدانية، لكن من دون ذكر روسيا تحديدا.
وبعد جدال طويل، لم يتضمن البيان الختامي إدانة لروسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، مكتفيا بالتأكيد على السلامة الإقليمية للحدود، في حين نددت أغلبية أعضاء مجموعة العشرين في العام الماضي الغزو بشكل صريح.
الكيفية التي ستنتهي بها الحرب في أوكرانيا ستكون عاملا رئيسيا في تحديد كيف سيبدو النظام العالمي مستقبلا. والفخ الأوكراني الذي أرادت واشنطن إيقاع بوتين به، قد يتحول إلى فخ للولايات المتحدة. كل شيء مرهون بنجاح بوتين ليس في كسب الحرب بل فقط في التمسك بالسلطة.
هذا السيناريو سيتوج بكين زعيمة لقطب آسيوي واحد، وهو ما تريد الولايات المتحدة تلافيه بأيّ ثمن.
ورغم أن الرئيس الأميركي نفى أن يكون راغبا في “احتواء” الصين، إلا أنه غادر نيودلهي متوجها إلى فيتنام، ليؤكد النفوذ الأميركي في آسيا ويضع الولايات المتحدة على أبواب بكين، حيث أعلن من هناك عن إبرام “شراكة إستراتيجية واسعة”.
وقد تنكشف النوايا الأميركية الحقيقية من وراء الزيارة، إذا عرفنا أن فيتنام لم تبرم مثل هذه الشراكة التي تمثل أعلى درجة من التقارب الدبلوماسي تقيمها حتى الآن، إلا مع روسيا والهند وكوريا الجنوبية والصين.
واعتبر بايدن أن “فيتنام والولايات المتحدة شريكان أساسيان” في مرحلة “مهمة للغاية” بالنسبة إلى العالم. مؤكدا على “تعميق التعاون في مجال التقنيات الناشئة الرئيسية، وخصوصا في ما يتعلق بالتأسيس لسلسلة توريد أكثر مقاومة لأشباه الموصلات”.
ومعروف أن أشباه الموصلات كانت وراء تفجير خلاف حاد وكبير بين الولايات المتحدة والصين.
وجاء في بيان صدر بعد التوقيع على الاتفاق أن الهدف هو “تطوير” قدرات فيتنام على هذا الصعيد “لصالح الصناعة الأمريكية”، مشيدا بـ”قدرة (هذا البلد في جنوب شرق آسيا) على أداء دور أساسي في تأمين سلاسل توريد متينة لأشباه الموصلات”.
وبعبارة أخرى أن تكون الولايات المتحدة أقل اعتمادا على الصين. التي أكد بايدن أنه لا يريد احتوائها.
فمن يصدق شريكا مثل هذا؟
ظاهريا، قد تبدو مساعي الرئيس الأمريكي لرأب الصدع ناجحة، ولكنها عمليا لن تلغي التأثير الكبير الذي خلفته سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة على النظام العالمي الحالي، ولن يكون بمقدور واشنطن مستقبلا العودة للانفراد بقيادة العالم.
سيستمر زعماء الدول بمد أيديهم لمصافحة الرئيس بايدن ومن يخلفه من الرؤساء الأمريكيين، ولكن في كل مرة يفعلون ذلك سيحرصون على عد أصابعهم.
قمة مجموعة العشرين أسست لنهاية القطب الواحد. الولايات المتحدة لم تعد سيدة الموقف، انتهى عصر التنمر.
هناك سادة جدد وهناك عالم جديد بدأت تتشكل ملامحه.