بقلم: عبد الإله بلقزيز- الخليج
الشرق اليوم– كلّ سلطةٍ تحرص على استقرار أحوالها واستقرار أحوال المجتمع الذي تقوم فيه؛ وهي في سبيل ديمومة استقرارها مستعدّة لتقديم أيّ ثمن سياسي يتناسب وذلك الهدف العزيز على كلّ نخبة سياسيّة، فكيف إذا كان هذا الهدف أقلَّ كلفة عليها. وأكثر ما يعرِّض سلطة ما إلى زعزعة استقرارها هو تنامي الاعتراض عليها في الاجتماع الوطنيّ إلى الحدّ الذي يَشْرَع فيه التّعبير عن ذلك الاعتراض في الانتقال من الضّغط المعنويّ الهادئ إلى الضّغط الماديّ العنيف ملقياً بنتائجه على تماسُك قواها وأوضاعها.
يقع ذلك، في الغالب، حين تتكالب عليها أحوال التّأزّم السياسي فتؤدّيها إلى حالٍ من الانسداد السّياسي المُؤْذِن بالزوال. يتولّد الانسداد من جملةٍ من العوامل ويتّخذ لنفسه صوراً مختلفة، ولكنّ الغالب عليه أن يأتيَ ثمْرةَ ضِيقٍ حادّ في قاعدة السلطة؛ في مكوّناتها وفي جمهورها الاجتماعي؛ فلقد يتمظهر ضِيق نطاقِ السّلطة في شكل نظامٍ سياسي يحكمه حزب واحد؛ وقد يتمظهر في صورة سلطة تستند إلى عصبيّة بعينها أو إلى منطقة من دون سواها؛ وقد يأخذ شكلَ نظام تحكمه نخبة عسكريّة… إلى غير هذه من الأشكال. وفي كلّ واحدٍ منها يتكرّر الثّابت عينه – الذي هو من تبعاتِ ضيق نطاقِ مكوّنات السّلطة ؛ أعني: ضِيق القاعدة الاجتماعية التي تستند إليها تلك السّلطة فتمثّل لديها حاملَها الاجتماعيّ وحاضنتَها ومرجعَها اللّذيْن إليهما تؤول. وما أغنانا عن بيان مَواطن الخطر في صيرورة السلطة إلى هذه الحال من الانسداد السّياسي ومن ضِيقِ نطاق قُواها ومكوّناتها وضمور جمهورها الاجتماعيّ.
من النّافل القول إنّ الخروج من هذا الانسداد ممكنٌ وعسيرٌ في الآن عينه؛ فأمّا أنه ممكن فهو كذلك – أي ممكن – من الجهتين: من جهة السّلطة وقواها، ومن جهة الأطراف الاجتماعيّة والسّياسيّة المعارِضة لها. تستطيع السّلطة أن تتدارك حالة الانسداد فيها بإصلاحات سياسيّة تقود إلى توسعة نطاق مكوناته. وليس غير هذا الخيار متاحٌ لها، لأنّ احتمالات نجاحها في فرض إرادتها على معارضيها من غير تقديم تنازلات – أي البقاء على ما هي عليه – احتمالات ضئيلة جدّاً، وهي إذا ما نجحت في ذلك مرّة ستفشل مرّات عدّة وتكون النّتيجة أن تفتح عليها موجاتٍ متعاقبةً من العنف. ويستطيع معارضوها، من جهتهم، أن يتخطّوا حال الانسداد إما بتغيير النّظام السّياسي، أو بفرض تنازلات على النّخبة الحاكمة والوصول إلى تفاهُمات سياسيّة على شروط تجاوُز حال الانسداد تلك. وأمّا أنّه عسير، فلأنّ قوى عديدة من داخل السّلطة ومن داخل القوى المعارِضة قد تُفْشِل كلّ مسعًى إلى حلٍّ وسَطٍ متوافَق عليه لإنهاء التّأزّم والانسداد وفتح شرايين السّلطة لتدفُّق دماءٍ جديدة؛ إذ إنّ لمقاومة الإصلاح من طرف هذه القوى دلالة لا يُخطئها حُسن التّقدير، هي أنّها قوًى طفيليّة تتضرّر مصالحها من أيّ إصلاحٍ يضع عليها الاحتساب القانونيّ.
إنّ أيّ سلطة، بهذا المعنى، تحتفظ لنفسها بخيار حلّ أزمة الانسداد السّياسيّ بوصفه خياراً متاحاً رهْن يديْها إن هي شاءت، أي إنْ نضجت لديها إرادةُ التّصحيح والإصلاح وأفصحتْ عن نفسها لديها بشكلٍ صادق لا امتراء فيه. لكنّها قد تفقد هذا الخيار، ومعه المبادرة، إنْ هي تلكّأت طويلاً وتردّدت في الإقدام عليه أملاً في نشوء شروطٍ جديدة ترفع عنها عبء الحاجة إلى الإصلاح أو تُسوِّغ لها سلوكَ سبيل التّملّص. في مثل هذه الأوضاع، قد تنتقل المبادرة إلى معارضيها. ولعلّهم يعثرون في تملُّص النّخبة الحاكمة عن إجراء الإصلاحات المرجوّة على ذريعةٍ للرّجوع عن سُبُل الضّغط الاجتماعيّ والسّياسيّ السّلميّ لركوب خياراتٍ أخرى أشدّ قسوة مثل العنف الاجتماعيّ- السّياسيّ أو العنف المسلّح. ولقد شهدنا على مثالاتٍ لهذه الانتقالة الدراماتيكيّة من المطَالَبات السّياسيّة بإصلاحات أوضاع السّلطة إلى ركوب صهوة العنف وتوسُّل السّلاح في قسمٍ من البلاد العربيّة، بدءاً من مطلع العقد الثّاني من هذا القرن، بمناسبة انتفاضات «الرّبيع العربيّ». لكنّا شهِدنا على الأسوأ من هذا بكثير: ما تولَّد من فاجع النّتائج من قرقعة السّلاح: من قتْلٍ ودمارٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ وتمزيقٍ لأواصر البلد الواحد والشّعب الواحد، والتي قد تستمرّ آثارها لعقود!
والحقُّ أنّه من مصلحة أيِّ سلطةٍ أن تعالج أسباب انسدادها وتأزّم أحوالها بالمزيد من رياضة نفسها على نهج سياسة الإصلاح والتّقويم. ذلك أَضْمنُ لها للبقاء وحيازة المقبوليّة الشّعبيّة. وعليها أن تنظّف داخلَها من مراكز مقاومة الإصلاح ومن خطابهم الذي لا يقترح عليها سوى الذّهاب إلى حتفها! فقد يكون هؤلاء أشدّ خطراً عليها من معارضيها.