بقلم: ابراهيم حيدر- النهار العربي
الشرق اليوم– تزامن قرار مجلس الأمن الدولي التمديد لعمل القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني “اليونيفيل” مع زيارتين شهدهما لبنان، الأولى للموفد الأميركي آموس هوكشتاين، والثانية لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان. وصل عبد اللهيان في الوقت الذي غادر فيه هوكشتاين مطار بيروت، مدلياً بتصريحات أبرزها الحديث عن إمكان إطلاق مفاوضات حول ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل، خصوصاً بعد نجاح وساطته في الحدود البحرية، فيما كان الوزير الإيراني يؤكّد أيضاً من المطار، قبل أن يزور الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، أنّه سيحضّ مختلف الأفرقاء على التوصل إلى تفاهمات تؤدّي إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة، وأنّ إيران ستستمر في دعمها القوي للبنان.
قد تكون المصادفة وحدها جمعت بين المحطات الثلاث، إلاّ أنّ دلالاتها السياسية مرتبطة إلى حدّ بعيد. فقرار التجديد لـ”اليونيفيل” بالتعديلات التي أُدخلت على القرار الجديد، تسمح للقوات الدولية بالقيام بدوريات غير معلنة، والذي أكّد أنّ قوات “اليونيفيل” تعمل بشكل مستقل ولا تحتاج إذناً مسبقاً للقيام بمهمّاتها، على أن تواصل التنسيق مع الحكومة اللبنانية، مع توجيه دعوة واضحة للحكومة لتسهيل وصول قوات “اليونيفيل” بشكل فوري وكامل للمواقع التي طلبت القوات الدولية الوصول إليها.
وفي المقابل كان لكلام هوكشتاين وقعٌ حول ترسيم الحدود البرية، حيث لقوات “اليونيفيل” مهمّة مراقبة الحدود وتطبيق القرار الدولي 1701. أما الزيارة الإيرانية فترتبط، وإن كانت عناوينها رسمية، بدور “حزب الله” القوة المعترضة على تعديلات مهمّة “اليونيفيل” وما يطرحه من وحدة الجبهات في مواجهة إسرائيل، وفي الوقت نفسه هيمنته في الداخل اللبناني.
مع تعديل مهمّة “اليونيفيل” التي كان للولايات المتحدة الأميركية دور أساسي فيها، يترقّب الجميع كيف ستكون العلاقة بينها وبين “حزب الله” في المرحلة المقبلة، خصوصاً إذا ما نفّذت مهمّات غير مُعلنة من دون التنسيق مع الجيش اللبناني، حيث طالب مجلس الأمن بمنع أي قيود ورفع أي عوائق من أمام حركة أفرادها وضمان حرّية حركتها، أو إذا كان الأمر مقدّمة لتسويات تبدأ بالترسيم البري الذي دعا إليه هوكشتاين من بيروت، لاسيما وأنّ زيارته كانت للتأكيد على التهدئة وعلى استقرار الحدود البحرية، مع بدء لبنان التنقيب عن الغاز في البلوك 9، فيما تبدو مهمّة عبد اللهيان أكثر شمولاً في ما يتعلق بلبنان وسوريا، والتواصل مع “حزب الله”، خصوصاً بعد زيارته الأخيرة إلى السعودية واجتماعه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
تختلف الأولويات الأميركية والإيرانية في جولات هوكشتاين وعبد اللهيان، تبعاً للسياسات المتعلقة بالمنطقة والتوترات الإقليمية، خصوصاً في سوريا. ويظهر من خلال زيارة هوكشتاين إلى بيروت، أنّ الاهتمام الاميركي ينصبّ على الحدود البحرية والبرية وضمان استخراج الغاز، وتثبيت الاستقرار في هذه المنطقة، بصرف النظر عن الموقف المتشدّد من مسألة تعديل مهمّات “اليونيفيل”. فالأميركيون بقدر ما يضغطون على “حزب الله” بالتزامن مع ضغوط إسرائيلية لمحاصرته، إلاّ أنّهم يضغطون لتجنيب الحدود اللبنانية – الإسرائيلية أي تصعيد أمني يؤدي إلى حرب شاملة، لاسيما بعد التهديدات التي أطلقتها إسرائيل وقابلها “حزب الله” بتصعيد واستنفار عسكري، فيما تهتم واشنطن بعملية التنقيب عن الغاز الذي شكّل الاتفاق البحري بين لبنان وإسرائيل تقاطعاً أو صفقة غير مباشرة مع إيران، أدّت إلى اعتبار “حزب الله” الاتفاق إنجازاً تاريخياً، ومحيداً المنطقة البحرية عن أي تصعيد أو مواجهة. وإذا كانت عملية استخراج الغاز تمثل أولوية أميركية بعد تعهّد واشنطن كوسيط بتسهيلها، إلاّ أنّ الأميركيين يريدون استكمال العملية بالحدود البرية، وهو ما ركّز عليه هوكشتاين، انطلاقاً من ضرورة تجنيب الحدود اللبنانية – الإسرائيلية أي تصعيد في ظلّ الانشغال الأميركي بملفات وجبهات أخرى، لاسيما أوكرانيا.
لكن ترسيم الحدود البرية يختلف عن الحدود البحرية، فهناك تعقيدات ومناطق مرتبطة بالملف السوري، إنما الهدف الأساسي عندما يحين وقت المفاوضات، يكمن بالنسبة للأميركيين في تحييد هذه الجبهة عن القتال المباشر، وإن كانت الأمور غير مضمونة في حال الانسداد بين واشنطن وطهران، والهدف هو تثبيت وقف إطلاق النار والهدنة، بالرغم من تشديد الحصار على “حزب الله” بالعقوبات وغيرها، وتجنيب المنطقة أي أعمال قتالية. لكن هذا الامر يحتاج إلى جولات من المفاوضات واتصالات وحركة مكوكية، قبل أن تحدث تطورات على جبهات عدة مرشحة أن تكون مشتعلة في الشهر الجاري، خصوصاً في لبنان الذي يواجه معضلة الفراغ في مؤسساته، منتظراً التحرّك الإقليمي والدولي لحصول تفاهمات حول استحقاق الرئاسة، خصوصاً الزيارة المرتقبة للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت خلال أيلول (سبتمبر) الجاري.
وعلى وقع التحرّك الأميركي تجاه لبنان، لم تكن زيارة عبد اللهيان إلى بيروت مجرد جولة عابرة، إذ تحمل دلالات سياسية تؤكّد الحضور الإيراني في لبنان وربطه بتطورات المنطقة. وعلى هذا لا يمكن لأي تسوية أن تنضج من دون أن يكون للإيرانيين كلمة الفصل فيها. فالتحرّك الإيراني يأتي لتخفيف الضغوط عن “حزب الله”، وأيضاً للقول إنّ مسارات الحل مرتبطة بالتفاوض معه، وتوفير التغطية لمحور المقاومة بعد التمديد لقوات “اليونيفيل”، خصوصاً بعد إعلان السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير، أنّ أهالي المنطقة لن يسمحوا لـ”اليونيفيل” بالقيام بأي مهمّة ما لم تكن منسّقة مع الدولة اللبنانية، وتحظى بموافقته. والأهم، الدعم الإيراني لوحدة الجبهات التي ينادي بها الحزب، والتي يسعى إلى منع تأثير مهمّات “اليونيفيل” الجديدة عليها.
سيتبيّن خلال شهر أيلول (سبتمبر) الجاري، طبيعة المسارات الإقليمية والدولية حول لبنان وأيضاً سوريا التي تشهد توترات ومواجهات على أكثر من جبهة ومحور، خصوصاً مع تغيّرات في المواقف الدولية، تُنبئ بتحوّلات في التعامل مع الملفات الشائكة. ويبدو أنّ ثمة سباقاً بين الوصول إلى تفاهمات بشأن لبنان من ضمنها ترسيم الحدود البرية واستحقاق الرئاسة، وبين تصعيد جديد يشمل مختلف الجبهات. وعلى وقع هذا السباق يدخل الوضع اللبناني في مرحلة حرجة، لن يكون الخروج منها ممكناً من دون تبلور تفاهمات إقليمية ودولية، على أسس متوازنة، تلجم التوترات وتضبط الأوضاع الأمنية وتوفّر حداً أدنى من الاستقرار. وإلى أن تتوفّر آلية دولية وإقليمية قادرة على فرض مسار واضح، سيمرّ لبنان بكثير من الأحداث في ضوء الاستعصاءات الداخلية واستمرار الرهانات عند البعض خصوصاً لدى “حزب الله”، لتغيير يصبّ في مصلحة حساباته المحلية والإقليمية.