بقلم: ممدوح المهيني- صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم– السعودية مرَّت خلال السنوات الماضية بتحولات كبيرة إيجابية نقلتها إلى مستويات أخرى. ورغم هذا فإن المتطرفين غاضبون ويرددون دعايات تقول إن المجتمع السعودي أصبح أقل تديناً بسبب موجة التغير والانفتاح الكبيرة التي يمر بها. يستغلون كل حفلة موسيقية أو فيلم سينمائي أو بطولة رياضية للترويج لهذه الأفكار والتصورات.
ولكن هل هذا صحيح؟ هل فعلاً المجتمع أصبح أقل تديناً؟
في الواقع أن الذي حدث العكس وهو أن المجتمع أصبح أكثر تديناً وأقل تطرفاً. التدين الذي نقصده والذي يعنيه المتطرفون شيئان مختلفان تماماً.
المتطرفون يقصدون التدين الذي هو فرض نمط وشكل واحد من التفسير المتعصب وفرضه بالإكراه على الناس في المدارس والجامعات والأسواق والمساجد والحياة العامة وحتى ملاعب كرة القدم التي كانت تمنع النساء من دخولها.
هم غاضبون لأن التدين، وهو التعصب الذي يقصدونه، كان يمنحهم صلاحيات واسعة ونفوذاً كبيراً على المجتمع انحسر خلال السنوات الأخيرة. كلما زاد تعصبهم زادت شعبيتهم وزادت جرأتهم. بعد أن تراجع هذا التعصب تراجع بشكل طبيعي نفوذهم وتقلص حضورهم في الفضاء العام وبعد أن كانوا نجوماً يظهرون على الشاشات ينشرون خطاب الكراهية ويحرضون على المختلفين، خرجوا من دائرة اهتمامات الناس.
نعم هم محقون، هذا التدين الذين يقصدونه تراجع عند السعوديين وزاد في المقابل التدين الحقيقي وهو الذي أقرب إلى الروح الحقيقية للإسلام.
هذه الروح التي تحترم قيمة الأفراد وخياراتهم من دون أن يفرض عليها بالقسر والإكراه نمط من السلوك والأفكار على الطريقة الطالبانية. نعم هذا التدين ارتفع في السعودية بحيث نرى الآن مجتمعاً متنوعاً متعدداً مختلفاً يرى أن الجوهر العميق للدين تلخصه الأخلاق الحميدة وروح التحضر والتسامح. الآن المجتمع السعودي يحتضن عدداً كبيراً من أصحاب الجنسيات والأعراق والأديان المختلفة وجميعهم متعايشون في سلام.
تدين المتطرفين يزيد معدلات النفاق لأن الناس تتظاهر وتخفي شخصياتها الحقيقية حتى تنسجم مع النموذج الأوحد. بعد أن زاد تدين السعوديين تراجعت هذه الظاهرة لأن الشخص غير مضطر للتظاهر بما لا يؤمن وهذا سر التنوع داخل المجتمع وقوة الشخصية. لا يمكن أن تبني أي تطور وحضارة على مجتمع ممزق ومهزوز في داخله ويظهر ما لا يبطن.
تدين المتطرفين يعني إلغاء القيمة الإنسانية وهذا ما شهدنا من شطب النساء من المجتمع وكأنهن كائنات غير مرئية. تدين السعوديين الذي زاد، على العكس تماماً، هو داعم لكي تكسب المرأة رزقها بيدها وتبني شخصيتها ونرى الآن سعوديات سفيرات ولاعبات كرة قدم وطاهيات وعاملات في مجالات عديدة كانت محظورة. من أجمل المشاهد أن ترى كيف استعادت المرأة السعودية مكانتها وقيمتها في المجتمع، وبعد أن كانت تسافر بمحرم أصبحت هي من يختم جوازك للدخول أو الخروج.
السعودية أصبحت المكان الذي يهرب إليه مواطنون دول أخرى لمشاهدة فيلم وحضور حفلة موسيقية أو معرض كتاب بعد أن حظرت بسبب قوانين المنع لديها. ومع توفر هذه الخيارات للإنسان يشعر أكثر بالانتماء. لا يعجب هذا المتطرفين الذين يريدونها مكانا للانغلاق والرجعية ويحاربونها لأنها الآن وجهة الحرية الفردية والمكان الذي يجد فيه الإنسان سعادته من دون قيود ومضايقات ولا يوجد تعارض بين التدين المتحضر والفنون والإبداع وزيارة الآثار التي أصبحت العلا إحدى عواصمها العالمية. السعودية تحتضن الآن جميع الأديان والثقافات والأعراق والإثنيات ويتضح من الرؤية المستقبلية أنها ستكون بوتقة سيُصهر فيها كل هذا التنوع الإنساني الفريد.
القيادة السعودية تحملت العبء الأكبر وواجهت هجمات أعدائها وأزالت كثيرا من العقبات الصعبة، وما نراه من عودة التدين الحقيقي المتحضر هو ثمار لهذه الخطوات الشجاعة. والميزة الأخرى أنها حاربت التطرف ولم تحولها إلى حملة علاقات عامة لها؛ ولهذا يهاجمها دعاة الكراهية والمتطرفون ويحاولون تشويه صورتها واتهامها بأنها انحرفت عن المسار الصحيح، ولكن العكس هو الذي حدث.