بقلم: يحيى عالم- الجزيرة
الشرق اليوم– أعاد انقلاب النخبة العسكرية في النيجر ضد الرئيس محمد بازوم، الذي كان في شهره الأول بالحكم، إلى الواجهة سؤال العلاقة بين فرنسا والدول الأفريقية التي كانت في السابق امتدادًا طبيعيًا لها، سواء خلال فترة الاستعمار المباشر أو عبر أشكال التدخل والهيمنة المختلفة سواء كانت اقتصادية، عسكرية، سياسية أو ثقافية.
وقد أصبح الوجود الفرنسي مهددًا في هذا البلد الغني بثرواته، كما حدث في العديد من الدول الأخرى التي فقدتها فرنسا لصالح روسيا أو قوى أخرى. وفي هذا السياق، تشهد المنطقة صراعًا محتدمًا على الثروات والسعي نحو الهيمنة والتحكم في نظم الحكم والسلطة. ولا يتعلق الأمر بما إذا كانت تلك النظم ديمقراطية أم أنها تديرها نخبة من الضباط أو نخبة سياسية فاسدة، فالأساسي هو الولاء.
وتلك إحدى مشكلات النيجر وغيرها من الدول، والتي قد تظل محطًا للنزاع. لكن مع كل نزاع متجدد ومستمر، يطرح سؤال حول العلاقة بين فرنسا وأفريقيا. ثم يبرز مستقبل أفريقيا في ظل الطموحات المتعددة التي تستهدفها، أو تحولها إلى مركزا للصراع الذي اتسعت رقعته في مناطق التماس بجغرافية العالم كله. وبالإضافة إلى ذلك، تبرز أزمة النيجر كلفة الخيارات المتاحة.
انقلاب النيجر والموقف الفرنسي.. الدوافع الاقتصادية والسياسية
لا يهم طبيعة نسق الحكم، سواء كان ديمقراطيًا أو غير ديمقراطي، وسواء تشكل من خلال الانتخابات أو حسمت به البندقية والمدفع. سواء كان يحكمه الساسة أم العسكر، تلك كلها تقسيمات قد تكون مفيدة من الناحية النظرية لفهم الأنساق السياسية والنظم الدستورية الحديثة، كما تطورت في تجارب الحكم وأشكال ممارسة السلطة عمليًا وفقاً لمبادئ نضجت في معين التجربة والنضال السياسي والمجتمعي، وصاغها منظرو الفكر والفلسفة والعلوم السياسية. ولكن، قد تصبح هذه التقسيمات غير ذات جدوى على أرض الواقع حين نحاول فهم مواقف الدول الديمقراطية مما يجري في الدول الأفريقية.
إذا نصير في هذه الحالة أمام تقسيم طبقي جديد يحكم النظام العالمي، بعبارة المفكر الأفريقي: “براهمة العالم ومنبوذوه”. والمنبوذون في النظام الدولي هم الأفارقة الزنوج. لكننا نوسع الدائرة لتشمل كل العالم الثالث أو دول الجنوب، من الذين ليس لهم نصيب في نعيم الديمقراطية والعدل والكرامة الإنسانية، بعيدًا عن الاستغلال وتفجير الأزمات السياسية والدينية والعرقية من أجل السيطرة.
وهؤلاء جميعهم، يصير سلوك الدول الكبرى تجاه تقلباتهم السياسية والمجتمعية مستندًا إلى المصلحة وليس المبدأ، وبحسب الكسب الاقتصادي والعائد من الثروات الطبيعية، وليس بناءً على الموقف الأخلاقي أو الدافع الإنساني. وهذا يعني أن ممارسة السلطة تحكمها المصلحة ليس في السياق الشرعي، بل في السياق الميكيافيلي الذي يجرد من الأخلاقيات. ولا تحكمها المبادئ، أو على الأقل، ليس حسب القواعد والنظم التي يحتكم إليها العقلاء. إذ أن القوة تعتبر أداة الحسم، والولاء هو المحدد. وعلى ضوء هذا نفهم الموقف الفرنسي، والعديد من المواقف الأخرى تجاه ما يجري في النيجر، أو في مناطق نزاع وثورات أخرى.
وقد بعث انقلاب النيجر رسالة مؤلمة إلى فرنسا، ضمن سلسلة من الرسائل التي تلقتها باريس خلال السنوات الأخيرة من أفريقيا. وفي الوقت نفسه، أدى هذا الانقلاب إلى تعقيد الوضع في النيجر، ودول الساحل والصحراء، وأفريقيا ككل. ولا يُتوقع من فرنسا التعامل مع الأزمة في دولة كانت في الماضي من مستعمراتها، والتي تحتفظ فيها حاليًا بوجود عسكري يقدر بحوالي 1500 جندي، بطريقة مختلفة عن كيفية تدبير تدخلاتها في أفريقيا.
ولكن جغرافية المكان، التي تمتد على صحراء شاسعة ينشط فيها جماعات مقاتلة تعبر الحدود، وتعدد المتدخلين والآثار المترتبة على ذلك -آثار قد تؤثر مباشرة على الاقتصاد الفرنسي ومخزونه من الطاقة- كل ذلك جعل الوضع أكثر تعقيدًا. وقد بلغ الأمر إلى حد طلب النخبة العسكرية من فرنسا سحب سفيرها، وذلك بسبب عدم تجاوبها مع طلب زيارة وزارة الخارجية، مبررة ذلك بعدم شرعية السلطة الحالية.
وتمتلك النيجر ثروات طبيعية هائلة ومتنوعة، تتراوح من اليورانيوم إلى النفط والذهب. وعلى الرغم من هذه الثروات الكبيرة الموجودة في باطن الأرض، إلا أنها لم تظهر تأثيرها على البنية التحتية للدولة أو على مستوى المعيشة اليومي للمواطنين من حيث معالجة مشكلات الفقر والصحة والتعليم وغيرها. وهذا جعل الموقف الشعبي يميل إلى عدم رفض الانقلاب، أولاً بسبب النخبة السياسية، وثانيًا بسبب الموقف تجاه فرنسا التي تُعتبر قوة تستغل ثروات البلاد. واستفاد الانقلاب من هذه المشاعر لضمان صمت الشعب.
وكإشارة للثروات الطبيعية، تمتلك دولة النيجر رابع أكبر احتياطي عالمي، وهي توفر لفرنسا وحدها حوالي 30% من احتياجاتها الطاقية. وبالنسبة لعائدات النفط، التي تشكل حوالي 25% من الناتج المحلي النيجري، فقد بلغت في العام 2020 حوالي 13.6 مليار دولار، بالإضافة إلى الذهب. وتلك المناطق الغنية بثرواتها الطبيعية هي التي تتمركز بها القواعد والقوات العسكرية الأجنبية. وأي تغيير في نسق السلطة سيُسبب تأثيرًا على طبيعة الوجود الغربي، وبشكل خاص الفرنسي في النيجر. وهذا هو ما أُعرِب عنه رسميًا بعد الانقلاب ومن قبل الشعب في المظاهرات التي تعارض الوجود الفرنسي، وهي مظاهرات تشكل مصدر قلق للدول الغربية، وخصوصًا لفرنسا وأميركا.
معضلة الانقلاب العسكري بالنيجر والاستثمار الزائف بالشعور المعادي لفرنسا
بعيدًا عن طبيعة العلاقة بين فرنسا وأفريقيا، التي تقوم على استغلال ثرواتها وخيراتها بأبشع الطرق، وارتباط المنظومة المالية لعدد من الدول الأفريقية باليورو، كما هو الحال مع الفرنك الأفريقي، فإنه لا يمكن اعتبار كل حديث عن التحرر من الهيمنة الفرنسية، أو من أي قوة أخرى، تعبيرًا عن تطلع فعلي لتحقيق السيادة والاستقلال.
وبصيغة أخرى، وعلى اعتبار أن التحرر من الاستعمار يعد مطلبًا يتأسس على شرعية أخلاقية، وهو ملهم في الوقت نفسه لتوحيد شعور المجتمع ضد قوى الاستغلال، فقد حدث في النيجر أن هذا المزاج الأصيل تم توجيهه في منحى آخر، مما قد يفرغ مطلب التخلص من الهيمنة الفرنسية من البعد الأخلاقي النبيل الذي يتمتع به، ومساءلة هذا الشعار الذي رُفع من قبل العسكر في السلطة الجديدة وفي المظاهرات الشعبية المؤيدة للانقلاب، يمكن أن يُقدم من خلال منحيين:
المنحى الأول: استبدال قوة استعمارية مستغلة بأخرى تحمل نفس الخصائص
أي استبدال لفرنسا بروسيا، وكلاهما يحمل نفس التوجهات نحو الهيمنة والاستغلال لمقدرات الشعوب، والوقوف كسد منيع أمام أي تحول يقود نحو التحرر، هذه هي طبيعة نسق السلطة والمحددات التي توجه أشكال الهيمنة والعلاقات في النظام الدولي الراهن كما أشرنا سابقًا. وقد اتخذت تلك المحددات مظاهر متعددة في أشكال التدخل، ولعل أقرب مثال يخص عالمنا العربي والجنوب برمته هو مواقف هذه القوى من الربيع العربي وأحداثه، ثم أحداث السودان مؤخرًا. والمظلة الروسية أو أي قوة أخرى لا تختلف عن المظلة الفرنسية، سواء من حيث النوع أو الدرجة، والانزياح من هذا القبيل هو تأبيد للتبعية وتنويع درجاتها ومستويات المتدخلين فيها.
فالانقلاب، بهذا المعنى، يحمل بعض الأبعاد المتعلقة بالنزاع بين القوى الدولية على أفريقيا. وقد تم استثمار شعارات واقعية تشعل الحماسة لدى الجمهور في هذا السياق، لكنها حتمًا لا تحقق له الحرية والسيادة الفعلية. وقد شهدنا هذا بين فرنسا وروسيا في عدد من الدول التي كانت في الماضي تحت الهيمنة الفرنسية وضمن مستعمراتها، والتي تربطها مع فرنسا مصالح اقتصادية وعسكرية وثقافية.
وجميعها شهدت تراجعًا في الدور الفرنسي لصالح روسيا -أو غيرها من القوى- التي عملت بتكلفة أقل من خلال مرتزقة “فاغنر”. وذلك من خلال تقديم الدعم المسلح لقوات عسكرية أو متمردين بهدف الوصول إلى السلطة. وظلت هذه الدول رهينة لحكم المؤسسة العسكرية، أو تورطت في نزاعات تحمل إمكانات التحول إلى حروب أهلية قد تهدد استقرار مجتمعاتها بالكامل. والحروب، سواء كانت بين الدول أو عبر المرتزقة وبطابع أهلي، تعتبر أرضية خصبة للاستثمار والتحكم في مصائر الدول والمجتمعات من قبل القوى التي تدير الصراع من وراء الكواليس. وفي الوقت الحالي، أصبح هذا الأمر واضحًا ولا يحتاج إلى تبرير.
المنحى الثاني: الجيش أو المؤسسة العسكرية والسلطة
تجربة الانقلابات العسكرية في أفريقيا والعالم العربي، والحكم العسكري بشكل عام، لا يعبر أصالة عن نبل هذا المشروع أخلاقياً. وتحمل أفريقيا والعالم العربي تجارب كثيرة تشير إلى المآسي التي يمكن أن يخلفها هذا النوع من الحكم. ففي الواقع، لم تتقدم أية دولة تحت الحكم العسكري ولم تتمتع بالحرية أو التطور. إذ تُستخدم القوة التي يمتلكها الجيش في العديد من الأحيان خلال فترات الفراغ والتناقضات للاستيلاء على السلطة من أجل التحكم والثروة، وليس لتحقيق الأهداف المجتمعية المشروعة. وفي النيجر، حسب ما هو متداول، يُعتقد أن دوافع الانقلاب المفاجئ كانت مرتبطة بتناقضات بين الرئيس المعزول وقائد الانقلاب.
الخيارات المعقدة للحل أو التسوية في النيجر
في ظل هذا الوضع يبقى النيجر ومعه أفريقيا برمتها، أمام حالة معقدة تضيق فيها الخيارات أمام الفاعلين لحل معضلة الانقلاب، ويمكن رصدها في الآتي:
التفاوض مع إبقاء الخيار العسكري على الطاولة: ولكن التركيبة السكانية ذات التعدد الإثني والعرقي، وطبيعة المساندة التي نالها الانقلاب مجتمعيًا، أو من خلال الدول المجاورة للنيجر والتي يرأسها عسكريون جاؤوا إلى السلطة نتيجة انقلابات كما في مالي وبوركينا فاسو، حيث فقدت فرنسا حضورها الدبلوماسي بهما، قد أعلنت هاتين الدولتين استعدادهما لتقديم الدعم العسكري لجيش النيجر في حال تم تدخل من قِبل إكواس.
الأدوار الدبلوماسية: وهو ما يظهر من خلال السلوك الأميركي الذي يختلف نسبيًا عن الموقف والطريقة التي تدير بها فرنسا الأحداث المتعلقة بانقلاب النيجر. حيث جرى لقاء بين مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية ومسؤولي إكواس في عاصمة نيجيريا. وتسعى الولايات المتحدة لعدم فقدان موطئ قدم لها في غرب أفريقيا، لأن أي تراجع في هذا السياق يعتبر كسبًا ثمينًا لروسيا.
كما حاولت الجزائر القيام بدور الوساطة، وهو دور محدد وضروري نظرًا لطبيعة التقاطع الجغرافي على مستوى الحدود. ونظرًا للانعكاس المباشر لتدهور الوضع على الجزائر، فإنها تفضل اللجوء إلى الأدوار الدبلوماسية.
العقوبات الاقتصادية: قامت بها دول مجموعة إكواس، لكن في بلدٍ يعاني من أزمات متعددة، وأمام تدخلات قوى متصارعة في أفريقيا وغيرها من مناطق النزاع في العالم، فإن هذه العقوبات قد لا تحدث تأثيرًا كبيرًا في تغيير الوضع القائم هناك.
الخيار العسكري: إذا تم اللجوء إلى الخيار العسكري، سواء من قِبل دول إكواس أو فرنسا، أو من دول إكواس بتوجيه من فرنسا، فإن ذلك قد يكون مفجرًا لأزمة كبرى تشمل أفريقيا بأكملها. وتعدد الأطراف المتدخلة في أفريقيا قد يؤدي إلى فتح جبهة نزاع مسلح على واجهات متعددة، مع أبعاد يتداخل فيها أدوار الجيوش النظامية والاحتراب الأهلي لمكونات المجتمع الإثنية والعرقية التي تتخطى الحدود الوطنية. وهذا قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية والاجتماعية، مع مخاطر نزوح وهجرة على نطاق واسع، والتي قد تكون لها أضرار كبيرة على دول شمال أفريقيا وأوروبا. وهنا، نشير إلى الدول التي لها حدود مع النيجر مثل الجزائر وليبيا، إضافةً إلى الدول التي تعد ممرًا رئيسيًا للهجرة غير النظامية نحو أوروبا، مثل المغرب وتونس.
ختامًا، الأزمة التي نشأت نتيجة الانقلاب في النيجر، والتبعات المحتملة التي قد تسببها في حال تجنب الخيار السلمي للتسوية، تستدعي زيادة الاهتمام من قبل الدول الأفريقية نفسها، وكذلك المؤسسات الإقليمية والدولية. وهنا، نود التأكيد على الدور الذي يجب أن تلعبه دول شمال أفريقيا، حيث يجب أن يكون لديها القدرة على ممارسة الضغط من أجل التوصل إلى حل سلمي، بعيدًا عن النزعة العنيفة التي قد تتبناها أطراف أخرى.
إن انفجار الوضع في النيجر ستكون له آثار ممتدة على جميع دول الجوار، كما أن التسوية الأفريقية ستسهم في استعادة السيادة. والتحرر من هيمنة قوى الاستغلال هو قدر جماعي لن يتحقق إلا من خلال خوضه بواسطة تلك المجتمعات التي عانت من إهانات متعددة خلال الاستعمار. وهناك أيضاً تداعيات للهيب النار الذي قد يشتعل في أي لحظة بأفريقيا، وإذا تم التخلي عن الأدوار الإقليمية للدول الرئيسية في هذه القارة بعيدًا عن لغة القوة التي قد تهدد بها فرنسا أو من خلال وسائلها، فإن دوامة النزاع والصراع لن تتوقف. وعند النظر إلى النزاعات المستمرة بين القوى الكبرى في العديد من مناطق العالم، فإن نار الحرب في منطقة الساحل والصحراء قد تتسع رقعتها لتشمل الشمال والجنوب معًا، في سياق يشبه الفوضى، حيث يعاد فيها تقسيم النفوذ بين القوى الكبرى.