بقلم: حسن أبو طالب- صحيفة الشرق الأوسط
الشرق اليوم– تعاون ثلاثي مُعزز وليس تحالفاً، وغير موجه لطرف آخر، هذه الأوصاف خرج بها جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي بعد انتهاء قمة كامب ديفيد التي جمعت الرئيس بايدن مع نظيره الكوري الجنوبي يون سوك يول ورئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا. وبمقارنة سريعة للبيان الصادر عن القمة، وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأميركي بلينكن، التي تحدث فيها عن عهد جديد للتعاون الأمني الثلاثي له نتائجه على أمن المحيطين والعالم بأسره، تبدو مقولات سوليفان نوعاً من تهدئة الخواطر الصينية لا أكثر ولا أقل، التي تستشعر مخاطر جدية من نتائج القمة التي تستهدف محاصرتها عسكرياً وتكنولوجياً.
وفقاً لمخرجات القمة المعلنة، ثمة عملية تدريجية لبناء تعاون ثلاثي مؤسسي في مجالات متعددة، أبرزها القمم السنوية الدورية، والتدريبات العسكرية الثلاثية المنتظمة، ووضع آلية للتشاور وتبادل المعلومات بشأن التهديدات المحتملة في المنطقة، وخط ساخن لتبادل المعلومات وقت الأزمات، وصناعة الصواريخ والتكنولوجيا المتقدمة. وهي آليات تقترب كثيراً من الآليات المتبعة في أي تحالف أمني أو عسكري بين أكثر من طرف، تجمعهم مصالح مشتركة، ويواجهون تحديات وتهديدات تستدعي العمل الجماعي لمواجهتها.
ليس هناك أي جدل بشأن اتفاق الأطراف الثلاثة على أن الصين وكوريا الشمالية عنصران أساسيان في تحفيز بناء تعاون ثلاثي مُعزز، رغم بعض الخلافات التاريخية بين سيول وطوكيو، بدلاً من التعاون الثنائي الذي يجمع بين الولايات المتحدة وكل من كوريا الجنوبية واليابان كل على حدة منذ خمسينات القرن الماضي. وفي كل الوثائق العسكرية والتوجهات الاستراتيجية للدول الثلاث، التي صدرت في غضون العامين الماضيين، يوجد اتفاق على أن الصين تمثل تهديداً محتملاً لأمن تلك الدول ولأمن العالم حسب تلك الوثائق، لا سيما في ضوء استراتيجيتها لتحديث قدراتها العسكرية البرية والجوية والبحرية والنووية، وتعاونها الاستراتيجي مع روسيا، الذي تجلى أخيراً في القيام بدوريات بحرية مشتركة بين أسطولي البلدين في المحيط الهادي، والتدريب المشترك على أعمال حربية متنوعة المستويات.
كوريا الشمالية بكل ما تمثله من قدرات ذاتية، رغم العقوبات الدولية وحالة العزلة المفروضة عليها، على صنع صواريخ باليستية بعيدة المدى وأخرى فرط صوتية وقدرات نووية وغواصات تقليدية وأخرى نووية قيد الصنع، وتعاون مُعلن وغير معلن مع الصين وروسيا، تعد قوة تغيير غير مرغوب فيها، في شبه الجزيرة الكورية، وللمصالح الأميركية ذات الصلة بكوريا الجنوبية واليابان، ولسياستها المعلنة لمنع الانتشار النووي عالمياً، التي لا تعني شيئاً بالنسبة لبيونغ يانغ، حيث القوة النووية وتطوير القدرات الصاروخية ذات الرؤوس التقليدية أو فوق التقليدية هي الأساس لحماية النظام والبلاد ومنظومة الردع للأعداء، كما جاء في القانون الصادر سبتمبر (أيلول) 2022، الذي جعل كوريا الشمالية دولة نووية أمراً لا رجوع فيه، وحدَّد استخدامات القوة النووية المحتملة إذا تعرض الزعيم كيم لحادث فيجب توجيه ضربة نووية فورية لمصدر الاعتداء.
قبل قمة كامب ديفيد الثلاثية لم يكن من المتصور أن يقبل زعيم كوريا الشمالية دعوة الرئيس بايدن للقاء والبحث في نزع السلاح النووي من دون شروط مسبقة، كالتي أشار إليها قبل القمة بيوم واحد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، دون أن يوضح متى وجهت هذه الدعوة، التي لم يستجب لها كيم، وبالقطع لن يستجيب لهذه الدعوة بعد القمة ونتائجها المعلنة، التي تعدها بيونغ يانغ موجهة بالأساس لوجودها، وتستدعي اتخاذ المزيد من خطوات الردع وتعزيز القدرات الصاروخية والنووية.
الإصرار الكوري الشمالي على تطوير القدرات النووية يمثل إشكالية كبرى للولايات المتحدة، كما لحليفيها، فمن جانب تبدو العقوبات الدولية والأميركية على كوريا الشمالية غير ذات جدوى، كما أن الطموح الأميركي لنزع السلاح النووي لبيونغ يانغ لن يتحقق عملياً، وثمة جدل يثور أحياناً في واشنطن حول تغيير المسار، والاعتراف بكوريا الشمالية دولة نووية، والتعامل معها على هذا الأساس، وهو طرح يجد معارضة لعدة أسباب؛ أهمها أنه يقوض مصداقية الولايات المتحدة الدولية بالنسبة لنزع السلاح النووي عالمياً، وسيؤدي إلى حالة فقدان ثقة شبه كاملة في الالتزامات الأمنية الأميركية تجاه كوريا الجنوبية واليابان، وكلاهما يتجهان إلى تطوير قدراتهما العسكرية بوجه عام، كما أنهما يطالبان الولايات المتحدة بالتخلي عن تحفظاتها بشأن امتلاكهما قدرات نووية ذاتية، لا سيما وأن لديهما القدرات العلمية والموارد والتكنولوجيا التي تتيح لهما صنع أسلحة نووية، كما تتيح لهما بناء غواصات نووية بتكنولوجيا وطنية.
التحفظات الأميركية بشأن تطور القدرات النووية لحليفين رئيسيين في شرق آسيا، وتتم الاستعانة بهما لمواجهة النفوذ الصيني، تعود في الأساس إلى استراتيجية الولايات المتحدة في أن تظل القوة المهيمنة على قرار وإدارة الحرب لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، وإذا ما سمحت باستقلالية نووية عسكرية لكليهما أو لأحدهما، فسوف يشكل ذلك نقطة ضعف كبرى لا يمكن السماح بها، ومن هنا حرص الرئيس بايدن على تأكيد التزام بلاده الدفاع عنهما ووضعهما تحت المظلة النووية الأميركية. وكان الرئيس الكوري الجنوبي قد أعلن مراراً عن نية بلاده في أن تطلب من الولايات المتحدة تعديل النص الوارد في اتفاقية الدفاع المشترك، والخاص بقيادة الولايات المتحدة الجيش الكوري الجنوبي حال اندلاع مواجهة عسكرية، مُفترضة مع كوريا الشمالية أو أي طرف آخر، لكي تصبح إدارة الحرب مشتركة بين الجيش الكوري الجنوبي والجيش الأميركي، وهو طلب لم تستجب له واشنطن.
وفي ضوء قمة كامب ديفيد، تبدو عملية «مأسسة» التعاون الثلاثي المعزز خطوة كبرى لتهدئة مصادر القلق لدى حليفين مهمين، واحتواء للمطالب الفردية، وتعزيز القيادة الأميركية في الدفاع عن أمنهما، وإفساح مجال لكل منهما لزيادة إنفاقه الدفاعي بما يتلاءم مع الاستراتيجية الأميركية ذاتها المتعلقة بالمحيطين الهادي والهندي. ومع ذلك فإن عملية المأسسة تلك تفترض ضمناً احتمال التراجع عنها من قبل أي قيادة جديدة، قد تأتي لاحقاً في كوريا الجنوبية أو اليابان، وربما في البيت الأبيض ذاته. وعدم اليقين هذا سيظل بحاجة إلى الاحتواء، مما يعني أن تفعيل الالتزامات الأمنية بصورتها الثلاثية سيشكل الفارق بين القلق واليقين.