بقلم: عقيل عباس- النهار العربي
الشرق اليوم– على امتداد العام الحالي دأبت الأحزاب العراقية الحاكمة، الشيعية منها على الأخص، على افتعال معارك ذات طابع أخلاقي كي تُظهر عبرها أن المجتمع في خطر شديد لتقدم نفسها، من خلال الدولة التي تديرها هي وتهيمن على مفاصلها، بوصفها الحلّ ضد هذا الخطر.
كانت أول هذه “المخاطر” ما عُرف بـ”المحتوى الهابط”، وهي حملة بدأت الدولة بشنها في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي ضد من اعتبرتهم مروجي المحتوى الهابط على الانترنت، وهو المحتوى الذي أعلنت وزارة الداخلية في حينه أنه “لا يقلّ خطورة عن الجريمة المنظمة لأنه سبب من أسباب تخريب الأسرة العراقية والمجتمع”. قادت هذه الحملة الى اعتقال عشرات من منتجي مقاطع فيديوية قصيرة تضمنت مواد تمثيلية وكوميدية وأغانيَ وتعليقات ساخرة بعضها لا يخلو من كلمات بذيئة، فضلاً عن تناول مواضيع حساسة اجتماعياً كالعلاقات بين الجنسين والمشاكل العائلية.
تبع ذلك على نحو مباشر إثارة المخاوف من “تهديدات محدقة” بالمجتمع كان عنوانها المثلية الجنسية. استفادت هذه الحملة كثيراً من رفع علم “قوس قزح” الذي يرمز للمثلية، في شهر حزيران (يونيو). تحول هذا الشهر في دول غربية كثيرة إلى شهر الاحتفاء السنوي بالمثليين كمواطنين متساوين لا يتعرضون للعقوبة بسبب توجههم الجنسي كما كان الأمر في السابق، بعكس الفهم المغلوط في العالم العربي أن الغرض من الاحتفاء بالمثليين في هذا الشهر هو دعوة لأن يصبح الآخرون مثليين، أي الترويج للمثلية.
استغلت جهات سياسية متنفذة، بأسطول إعلامييها والمتحالفين معها والمتأثرين بها، هذه المناسبة السنوية التي لا علاقة لها بالعراق لاستنفار حملة الدفاع عن المجتمع وقيمه الأخلاقية من “غزو المثلية” الذي “سيدمره” وصولاً إلى الدعوة لتشريع قانون، يُنظر فيه الآن في البرلمان العراقي، يدعو إلى إنزال عقوبات الإعدام وغيرها بالمثليين والمروجين المفترضين للمثلية، على رغم وجود قوانين عراقية نافذة منذ عقود.
ثم كانت الحملة الإعلامية والسياسية الواسعة بعد إحراق متطرف من أصل عراقي نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة العراقية في العاصمة السويدية، استوكهولم، ما أدى إلى قيام الحكومة العراقية بطرد السفيرة السويدية من العراق واستدعاء القائم بالأعمال العراقي من السويد. صَوَّرت الحملةُ عمليةَ الحرق التي تكررت، بأنها جزء من جهد غربي منظم لاستهداف العراقيين في هويتهم الدينية وليس فعلاً فردياً لأشخاص مأزومين تهمهم الإثارة ويستفيدون من قوانين حرية التعبير في الدول الغربية التي تجري فيها عمليات الحرق هذه.
خفتت هذه الحملة سريعاً لصالح حملة أخرى أشد وأوسع وتبدو، لحد الآن، أكثر تنظيماً. إنها الحملة ضد “الجندر” أو “النوع الاجتماعي” التي صنعت خطراً جديداً ومزيفاً مفاده أن معنى الجندر مرتبط على نحو وثيق بالتحول الجنسي، أي تحول الرجال إلى نساء، أو بالعكس، ونشر المثلية وأنواع “الانحراف” الأخرى في المجتمع! اللافت في هذه الحملة هو مقدار التجهيل الواسع التي تتضمنها، إذ أصبح فجأة البحث عن معنى “الجندر” أحد الأسرار العميقة التي يخفيها “المتآمرون الغربيون” ويحتاج تقصياً بوليسياً لإماطة اللثام عنه وكشفه للجمهور في سياق فعل دفاع وطني عن البلاد وهويتها! في إطار هذا التجهيل الفظيع، الذي يليق بمجتمعات القرون الوسطى التي هيمنت عليها الخرافات والأساطير، تراجعَ المنطق وصوت العقل لصالح نظريات المؤامرة المعتادة والهلع الناتج عنها. يستطيع أي إنسان منطقي تهمّه المعرفة في عصر يمتاز بتوافر مصادر المعرفة الرصينة عبر الإنترنت، أن يراجع معنى مصطلح الجندر في أي انسكلوبيديا معروفة مثل الانسكلوبيديا البريطانية أو الأميركية أو أي قاموس موسع يُعتد به، مثل قاموس ويبستر أو إكسفورد، ليجد المعنى مشروحاً على نحو واضح، بعيداً عن التهويلات السياسية والعصبوية العراقية.
ثمة سجل معرفي وأكاديمي وحقوقي عالمي ضخم جداً يدور حول استخدام مفهوم “الجندر” وتطبيقاته في سياقات كثيرة مختلفة تراكم على مدى الخمسين عاماً الماضية، تم تجاهله تماماً أو حتى عدم الاعتراف بوجوده في سياق هذه الحملة. يركز هذا السجل الغني والمتنوع على استخدام الجندر كأداة للتحليل والإصلاح عبر كشف الاضطهادات التي تتعرض لها النساء في ثقافات مختلفة وكيفية تجاوزها نحو عالم يقوم على المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والكرامة الإنسانية، وليس إلغاء الفروق الجسدية بين الأثنين كما تزعم حملة التجهيل العراقية.
بسبب حملة التجهيل والتخويف هذه، مَنعت مؤسسات رسمية عراقية، بضمنها وزارات اتحادية وإدارات لمحافظات، استخدام مصطلح “الجندر” ورفعته من لغتها الرسمية في سياق تراجع رسمي عن برامج “النوع الاجتماعي”، الترجمة الرسمية العراقية لكلمة “الجندر”، والتزامات دولية دخل فيها العراق لتمكين المرأة وإزالة التمييز القانوني والاجتماعي ضدها في البلد. هذا التمييز راسخ وعميق، لسوء الحظ، ويحتاج، لوضع حد له، توظيفاً منهجياً وطويل الأمد لمفهوم الجندر على أساس الظروف والحاجات العراقية.
لا ترتبط هذه الحملة بالجندر فعلاً وتحديد معناه “الصحيح”، وإنما بحاجة الأحزاب الحاكمة لمعارك سياسية، تعتبرها سهلةً ومضمونة النتائج، في عام انتخابي ستجري في نهايته انتخابات مجالس المحافظات. تفضل هذه الأحزاب المعارك السياسية التي تدور حول الأخلاق والهوية لأنها أولاً بارعة في تخويف المجتمع واستنفار ارتيابه التأريخي والعميق بالآخر المختلف، خصوصاً الغرب. يتعلق الاعتبار الثاني، والأهم، من إثارة معارك الأخلاق والهوية بفشل هذه الأحزاب في الحكم وعجزها عن تقديم منجز حقيقي، في المجالات التي تهم الناس: الخدمات أو الاقتصاد أو البنية التحتية المتهالكة أو لجم الفساد الذي صنعته ورسخته السياسات الأنانية والقصيرة النظر لهذه الأحزاب.
في الحقيقة، لا خطرَ على الأخلاق مثل طبقة سياسية فاشلة كالتي في العراق قوضت الدولة التي تحكمها عبر سياسات النهب المنهجي لمواردها وعجزها عن الإيفاء بالتزاماتها المؤسساتية والاقتصادية والخدمية نحو المجتمع الذي تدعي الآن الدفاع عن أخلاقه! لم تهتم هذه الطبقة السياسية يوماً بكرامة العراقيين الذين يعيشون على نحو دائم إهانات انقطاع الكهرباء في أشهر الصيف اللاهب، والفقر المنتشر بسبب شحة فرص العمل، وانتشار الرشاوى عند مراجعة الدوائر الرسمية، والتطبيق العشوائي للقانون الذي ينجو من عقوبات مخالفته الأقوياء والمتنفذون ويقع تحت طائلته الفقراء والضعفاء، وبؤس البنية التحتية إذ يشح الماء الصالح للشرب وتفيض الشوارع في مواسم المطر. هذه هي المخاطر الحقيقية على أخلاق المجتمع وكرامته، وليس مفهوم “الجندر”.
قد تفوز هذه الأحزاب بمعركة الجندر، لكن هذا لن يؤخر كثيراً خسارتها المؤكدة بإزاء مجتمع قد ينخدع معظمه بسبب سوء فهم لمصطلح تخصصي، لكنه لن ينخدع بخصوص من الذي سرق موارده وأحال حياته الى ما يشبه الجحيم اليومي وأحرق أمنياته وتطلعاته بمستقبل أفضل.