بقلم: أحمد نظيف- النهار العربي
الشرق اليوم– كان أسبوعاً مليئاً بالمؤامرات في تونس، لوّحت فيه السلطة بوجود حزمة من المؤامرات والمتآمرين، لم تفصح كالعادة عن هويتهم، لكنهم – بحسب سردية الدولة – ما زالوا يسرحون ويمرحون من دون رقيب. الرئيس قيس سعيد لم يفوّت الفرصة كعادته في التلويح بعقاب قادم على مهل سيطال هؤلاء قائلاً: “الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي وستحارب كل المحتكرين والمضاربين، وستعمل على تطهير الإدارة من كل من اندس داخلها وصار يمثل عقبة لا يمكن قبول استمرارها بقضاء حاجات المواطنين (…). إن الأزمة المفتعلة في الخبز يجب ألا تتكرر بالنسبة إلى العودة المدرسية والجامعية، أو بالنسبة إلى عدد من المواد الأساسية الأخرى، بخاصة أن البعض يرتب منذ الآن لاختلاق أزمات أخرى في عدد من المواد الأساسية”، من دون تفاصيل أكثر.
كأننا لم نغادر صيف 2021، عندما أعلن الرئيس سيطرته المطلقة على السلطة. الخطاب نفسه، وكذلك المؤامرات، والأزمة المعيشية والاجتماعية للسكان، تتمدد من دون أفق للخلاص. أصبحنا نعيش حالةً من “المؤامرة المزمنة”. فلا السلطة كفت عن التحجج بالمؤامرات للهروب من فشلها في إدارة البلاد، ولا مضت نحو تفكيك هذه المؤامرات الخيالية كي تعالج المشكلات العالقة، والتي لم تعد تتعلق بالبطالة وفرص العمل والخدمات العامة، بل بالغذاء، إذ أصبح الحصول على الخبز والمواد الأساسية يحتاج جهداً كبيراً ووقتاً أكبر، ووقوفاً في طوابير طويلة منذ ساعات الصباح الأولى.
“المؤامرة هي بنية نفسية اجتماعية معقدة تؤدي إلى اندماج الأطروحات والأفكار المتباينة، والتي يبدو أن خصوصيتها الرئيسية هي الاختزال السببي إلى مصدر مقصود خفي وفعال وبعيد، وحيث يمكن اختزال كل شيء إلى أصل واحد، لذلك فإن التوسل بالمؤامرة أصبح بالنسبة إلى السلطة الحاكمة نوعاً من رد الفعل البافلوفي عندما تواجه ظواهر ليس لها تفسير بسيط. حتى تحول الأمر إلى نظام يقوم على “المؤامرة الدائمة”، إذا جاز التعبير، كونها مشتقة من المعجم الماركسي “الثورة الدائمة”، ذلك الشعار السحري الذي أطلقه ماركس، ثم طوره نظرياً تروتسكي لتسمية العملية التي لا تتوقف بها الثورة حتى تحقق كل أهدافها. ثم وضعها الفنان المصري – الفرنسي، جورج موستاكي، في قالب شعبي في أغنيته “دون أن تسميها” التي كتبت في أعقاب ثورة 1968 الفرنسية، وكانت رمزاً لليسار الراديكالي والحركات الأناركية.
وعلى عكس “الثورة الدائمة”، التي تفترض ديمومة الثورة، من دون الركون للمراحل، حتى تحقق جميع أهدافها الكونية، فإن “المؤامرة الدائمة” التي يتبناها النظام الشعبوي، تفترض ديمومة إنتاج وإعادة إنتاج التفسيرات والتآمرية للظواهر وللمشكلات اليومية للسكان لتبرير الفشل والحفاظ على ولاء التشكيلات الاجتماعية المحكومة، وبخاصة لتقديم نفسه كنظام يحارب أعداء متنوعين وغامضي الهوية من أجل الشعب، إذ يتحول هذا الصراع الخيالي هدفاً في حد ذاته، تدور حوله حياة السكان وإدارة السلطة للمجال.
في المقابل، تبقى المشكلات في الواقع اليومي عالقةً من دون حلول، حتى تتراكم وتزداد تعقيداً، ومعها تتراجع مطالب الناس إلى الحد الأدنى من الكفاف، ومع ذلك تكشف هذه الأنظمة الشعبوية عن فشل مزمن، يجعلها لا تحقق حتى هذا الحد الأدنى. تقوم سردية المؤامرة لتوجيه انتباه الأتباع وعاطفتهم وطاقتهم تجاه عدو مشترك يهدد مصالحهم، وبالتالي تحفيز الأتباع لتحقيق هذه الغاية، حيث تصور عدواً مجهولاً شريراً يشارك في أنشطة سرية للإضرار برفاهية الأتباع. ذلك أن الشعبوية بوصفها استراتيجية سياسية أو في الحد الأقصى أيديولوجيا هشة، فإن أساسها الأيديولوجي المعرفي هو نظرية المؤامرة. لكن هذه العملية التعبوية، ذات الأهداف السياسية، تنطوي على خطورة مضاعفة تستهدف على المدى الطويل العقيلة الجمعية للسكان، إذ يمكن أن تترسخ وتسود لتشكل عقلية جماعية، تقوم على الشك غير المنطقي، واللاعقلانية، يمكن أن تقود إلى مجموعة واسعة من المشكلات الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك عدم الثقة تجاه النخب والمتخصصين والمؤسسات السياسية، وفك الارتباط الاجتماعي، والعلاقات العدائية بين السكان، مع الأخذ في الاعتبار أن تأييد معتقدات المؤامرة أقل انتشاراً بكثير من تأييد المعتقدات، حيث لا يؤمن كل من يتبنى آراء شعبوية أو يصوّت لمصلحة الأحزاب الشعبوية بنظريات المؤامرة. ومع ذلك، فإن استكشاف العوامل التي قد تؤثر في العلاقة بين الشعبوية ونظريات المؤامرة يبدو أمراً حاسماً لفهم العلاقة الديناميكية بين الطرفين.
يخفي الاتكاء إلى نظرية المؤامرة الدائمة، كما يجري اليوم في تونس، سؤالاً أساسياً، وهو سؤال المعنى، أي معرفة من المسؤول عن مشكلاتنا. في سياق ضمور التشكيلات السياسية التقليدية يساراً ويميناً، نشهد نزوعاً لدى قطاعات واسعة من الناس لتصديق التفسيرات القائمة على غموض العلل التي تقف خلف مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما حدث للقطاع الأوسع من أنصار الرئيس قيس سعيد، الذين انجرفوا، وما زال كثير منهم منجرفين، وراء سردية أن ما يقع سببه وجود “كرتيلات وعصابات” كما يسميها الرئيس، تسعى إلى عرقلة مسار الرئيس نحو الازدهار والرخاء. في وقت من الأوقات، كانت هذه الذريعة تمتلك حداً أدنى من الوجاهة، حين كان الرئيس لا يمتلك صلاحيات تنفيذية واسعة في دستور 2014، لكن بعد عامين من سيطرته المطلقة على السلطة، وبعد عامٍ من إقرار دستور جديد يمنحه صلاحيات إمبراطورية، تتجاوز مهمته التنفيذية نحو التشريع والقضاء، لم تعد السلطة تملك ذريعةً يمكن أن تعلق فوقها فشلها في معالجة مشكلات هؤلاء سوى المزيد من تفكيك المؤامرات والمزيد من نشر ثقافة المؤامرة اللا محدودة بحد نقدي.