بقلم: راغدة درغام- النهار العربي
الشرق اليوم– طرأ جديد مفصلي على السياسات الإيرانية الخارجية، بما يوحي أنّ الاستراتيجية الكبرى لطهران رسمت تحوّلاً جذرياً في العلاقات مع الدول الخليجية العربية، يشمل قيامها بوساطات غير مسبوقة لإعادة صياغة العلاقات الإيرانية- الأميركية، والكلام ليس فقط عن قنوات عُمانية وإنما أيضاً سعودية وقطرية وإماراتية.
إدارة الرئيس جو بايدن بدورها انقلبت على نفسها وسياسة استبعادها المدروس للدول الخليجية العربية عن العلاقة الأميركية- الإيرانية أثناء المفاوضات النووية، وها هي اليوم ترحّب بالانفتاح السعودي- الإيراني لأنّها ترى فيه مصلحة أميركية. القاسم المشترك بين واشنطن وطهران في هذا المنعطف هو حاجتهما الاستراتيجية إلى الدول الخليجية العربية لإصلاح العلاقة الثنائية بينهما. فواشنطن تجد في تطوير العلاقة السعودية- الإيرانية فرصةً لفتح قناة جديدة إضافية للقنوات العُمانية والقطرية للتواصل مع طهران ولاستقطابها بعيداً من روسيا- وذلك لأسباب ذات علاقة بمعادلة الحرب الأوكرانية. إنما العقبة الرئيسية أمام الطموحات في إيران جديدة نوعياً، وهي التفاوت والتصادم بين عقائدية الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبراغماتيتها الانتقالية.
جميلٌ ما قاله وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان أثناء زيارته الرياض هذا الأسبوع لاستئناف العلاقات الديبلوماسية والتهيئة لزيارة الرئيس الإيراني إلى العاصمة السعودية قريباً. قال: “في إمكاننا العمل مع السعودية لحلّ الموضوعات العالقة في المنطقة بشكل فوري”، مشيراً إلى أنّ طهران تدعم تحقيق الأمن والسلام في المنطقة من دون تجزئة. العبرة في التنفيذ، بالتأكيد. إنما السؤال البديهي، هو أين يقف مرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي مما تقوم به الديبلوماسية الإيرانية البراغماتية التي يمثلها الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته؟ وما هي شروط “الحرس الثوري” الذي يتحكّم بالسياسة الخارجية الإيرانية عبر سلطته على “حزب الله” وأدوار الحرب الإقليمية، كما عبر أدواته التخريبية، كجزء لا يتجزأ من العقيدة الإيرانية القائمة على التوسّع في الجغرافيا العربية وتحديداً العراق وسوريا ولبنان؟ وأين تقع إسرائيل في معادلة المواجهة المستبعدة بينها وبين “حزب الله” بقرار إيراني؟ وهل الاستفراد بلبنان هو المكافأة الإيرانية لـ”حزب الله” مقابل تجميد نشاطاته الإقليمية؟
براغماتية المفاوضات السعودية- الإيرانية فرضت استبعاد الخوض في مسائل معقّدة، مثل الدور الإيراني المباشر وعبر “حزب الله” في كل من العراق وسوريا وبالتأكيد في لبنان. وقع القرار على ضرورة التركيز على المسائل الثنائية والأمن الخليجي في “السلّة الأولى” من المباحثات، على أن تكون أدوار “حزب الله” الإقليمية في “السلّة الثانية”. والسبب أنّ طرح نشاطات “حزب الله” على طاولة المفاوضات من شأنه أن يفجّر المباحثات، لأنّ “الحرس الثوري” لن يسمح لما يُسمّى بالتيار المعتدل في طهران أن يمسّ بهذه الورقة القيّمة لديه. وبالتالي، وقع التفاهم الضمني على استبعاد بحث “حزب الله” في هذه المرحلة من المباحثات كي لا يكون عنصر تفجيرها.
المشكلة في هذا الطرح، هو أنّه يوحي بأنّ هناك استعداداً لإعطاء إيران استثناءات في المنطقة، فيما الواقعية السياسية تفيد أنّ الاستقرار الإقليمي لن يتحقّق من دون معالجة دور إيران وأذرعها، وبالذات “حزب الله”، في العراق وسوريا ولبنان.
استبعاد النقاط الصعبة عن المفاوضات مرحلياً مفهوم، إنما ليس عندما يكون واضحاً أنّ ما تقوم به إيران في العراق أو “حزب الله” في لبنان يؤدّي حكماً إلى تثبيت سيطرتهما القاطعة هناك، فيما تتحوّل الدول الخليجية إلى ساحة لإبراز تحسين أداء وسلوك إيران وأذرعها. هذا خطير مهما بدا أنّه مرحلي وانتقالي.
ما يتردّد في المحافل السياسية هو أنّ إدارة بايدن بدورها لا تمانع أن يتمّ التركيز على “السلّة الأولى” من التفاهمات الخليجية- الإيرانية، لاسيما وأنّها تريد الاستفادة منها لتحسين لغة التفاهم الأميركية- الإيرانية. تأجيل المسائل الشائكة مثل تمسّك “الحرس الثوري” بتنفيذ عقيدة النظام في طهران ومثل مصير سيطرة “حزب الله” على لبنان، يبدو ملائماً لإدارة بايدن، طالما هناك تفاهم ضمني بأن لا مواجهة عسكرية بين “حزب الله” وإسرائيل، بضمانات إيرانية صامتة.
بكلام آخر، هناك معالم مقايضة لها رائحة كريهة، قوامها أنّ واشنطن لن تنجرّ إلى عمليات عدائية تريد إسرائيل لها أن تقوم بها ضدّ إيران، مقابل ضمان طهران عدم انجرار “حزب الله” إلى عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل مهما صدر من تصريحات ومزايدات.
موافقة واشنطن غير المعلنة على إقرار الأمن الواقع بوقوع لبنان في قبضة “حزب الله” وإيران، يبدو جزءاً من المقايضة الأوسع التي تكمن في لجم نشاطات “حزب الله” الإقليمية وإطلاق يده قليلاً في سوريا، إنما بعيداً من مواجهة مع إسرائيل هناك.
الأولوية لإدارة بايدن هي في الاستفادة من استعداد الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن تغيّر المزاج والأداء في الساحة الخليجية ونحو الولايات المتحدة. المصالحة مع إيران أهم لها من المواجهة مع “حزب الله”. إيران مهمّة لإدارة بايدن في معادلة المواجهة مع روسيا، وإذا كان هناك استعداد لدى طهران لتقبّل الود الأميركي. إنّ إدارة بايدن جاهزة لباقةٍ جديدة من الترغيب على نسق صفقة إطلاق سراح المحتجزين والأسرى مقابل الإفراج عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية لدى كوريا الجنوبية بمساعدة قطرية أساسية.
إيران من جهتها تدرك تماماً أنّها في أشدّ الحاجة إلى الولايات المتحدة كمفتاح أساسي لعودتها إلى السوق العالمية، ولتمكّنها من تطوير نفسها وبنيتها التحتية النفطية والتكنولوجية، واستعادة الحياة الطبيعية. هذا مستحيل من دون الولايات المتحدة- وهذا أساس منطق البراغماتيين في إيران. الحليف الروسي بات عاجزاً عن مدّ إيران بما تحتاجه بعدما خاض مغامرته الرهيبة في أوكرانيا. أما الصين، فهي لا تفرض على إيران أن تكون إما معها أو مع الولايات المتحدة، كما أنّ إدارة بايدن لا تخيِّر إيران بين الولايات المتحدة وبين الصين.
رجال الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا ينقلبون على عقيدة النظام مهما طغت عليهم البراغماتية. إنّهم يقومون بتعديل modification العقيدة وتلطيف الأداء بما يتناسب مع الواقع الجديد لإنقاذ إيران ولإنقاذ النظام. رجال طهران لا يعيدون النظر بعقيدة النظام. لقد ارتأوا أنّ مصلحة بقاء النظام تقتضي إجراءات التعديل الانتقالية.
رجال طهران يريدون الاحترام الإقليمي وردّ الاعتبار وما يسمّونه بديبلوماسية الكرامة والعزّة. رجال “حزب الله” يريدون تشديد قبضتهم وسيطرتهم على لبنان، وحتى الآن هم يتمتعون بدعم رجال “الحرس الثوري” الأقوياء والحلفاء الأساسيين لمرشد الجمهورية.
البعض، بالذات بين العرب في الخليج، يراهنون على أنّ المعركة الداخلية في إيران ستؤدّي إلى تراجع نفوذ “الحرس الثوري”، لاسيما بعد وفاة مرشد الجمهورية، وبالتالي، سيكون “حزب الله” تنظيماً أضعف وأكثر استعداداً للتأقلم مع التوجّه الجديد لإيران إقليمياً ودولياً- وبالتالي سيأخذ حجمه الطبيعي اقليمياً ولبنانياً.
هذا وارد منطقياً، إلاّ أنّه مجرد احتمال وليس سياسة. وهنا الخطر والخطأ. قد يُقال إنّ العورة في المنظومة الحاكمة وفي التحالفات الانتهازية بين شتى الأحزاب اللبنانية و”حزب الله”، وفي مقدّمتها الأحزاب المسيحية. هذا صحيح. وقد يُقال إنّ انحطاط لبنان وانهياره هو بالدرجة الأولى مسؤولية اللبنانيين، حكومة وأحزاباً ونواباً وشعباً. هذا صحيح أيضاً. إنما كل هذا لا ينفي التالي: إنّ الاستقرار الإقليمي الذي تصبو إليه الدول الخليجية العربية ووضعته حجراً أساسياً في رؤيتها المستقبلية، لن يتحقّق طالما استمر تمكين “حزب الله” من الهيمنة لبنانياً مقابل انحسار نشاطاته إقليمياً. هنا الخطر والخطأ معاً.
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان اعتبر استئناف العلاقات الديبلوماسية مع إيران نقطة مفصلية للأمن في المنطقة، وهذا بالتأكيد صحيح. شدّد أيضاً على تطلّع السعودية لتعزيز العلاقات الثنائية مع طهران، وقال إنّ الرغبة صادقة وجديّة لتعزيز الثقة المتبادلة بين الجانبين. هذا كلام دقيق لأنّ الأمن الإقليمي جزء أساسي من العلاقات الثنائية. هذه ليست بعد مرحلة الثقة التامة، وإنما هي مرحلة الاختبار بحسن نية، وليس فقط على الصعيد الثنائي، لأنّ العلاقات السعودية- الإيرانية أبعد من الثنائية، بل هي جزء من العلاقات الدولية التي تفرزها المرحلة.
كل الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي- السعودية والإمارات وقطر وعُمان والكويت والبحرين- تعمل نحو تحسين العلاقات مع إيران. بعضها يلعب دوراً رئيسياً لتحقيق التقارب بين واشنطن وطهران على الصعيد الثنائي والاستراتيجي، كما في إطار المسألة النووية وعملية رفع العقوبات الأميركية عن إيران خطوة بخطوة، بدلاً من الصفقة النووية الكاملة، والتي كانت الدول الخليجية العربية مُستبعَدةً عنها بقرار إيراني وأميركي وأوروبي بموافقة صينية وروسية.
تغيّر الزمن وفرضت الظروف التاريخية تحوّلاً لم يكن في الحساب وهو الحرب الروسية في أوكرانيا وما أسفرت عنه من توسيع لحلف شمال الأطلسي “ناتو” داخل أوروبا وخارجها. إدارة بايدن تريد سلخ إيران عن روسيا بهدف إضعاف روسيا وزيادة عزلها. إنّها تتقدّم بأفكار تدخل في خانة الصفقات الكبرى Grand Bargain مع إيران كما مع السعودية مع اختلاف البنود والأولويات.
إدارة بايدن تضغط على إيران للتوقف عن بيع طائرات مسيّرة مسلّحة إلى روسيا التي تستخدمها في الحرب على أوكرانيا، في إطار التفاهمات الشفوية بين الطرفين. وزير الخارجية أنتوني بلينكن أكّد أنّه سيرحّب بأي خطوات إيرانية لخفض تصعيد “تهديدها النووي المتنامي”، لكن ما يحدث في التفاهمات الأميركية- الإيرانية بالذات عبر الدول الخليجية العربية، يشكّل عناصر صفقة أوسع من خفض التوتر بين واشنطن وطهران- صفقة استراتيجية لها ملامح ما يُسمّى بالـ”غراند بارغين” في منطقة الشرق الأوسط. والشيطان في التفاصيل.