بقلم: ممدوح الولي- الجزيرة
الشرق اليوم- تميزت القرارات الاقتصادية المصرية في الفترة الأخيرة ببطء أثر على فعاليتها في معالجة المشكلات الاقتصادية. كما أظهرت تسرعا نحو المشروعات المسماة بـ”القومية” على حساب الأولويات المجتمعية كالصحة، التعليم، المواصلات، والغذاء. وفي الآونة الأخيرة، أضيف إلى ذلك ظاهرة التناقض في بعض القرارات مقارنة بما أُعلن سابقا حول المشكلات نفسها.
ومن أمثلة هذه التناقضات ما يلي:
أولا: في ضوء المادة السادسة من قانون البنك المركزي، التي تستهدف استقرار الأسعار، ركز البنك على سحب السيولة من السوق عبر مزادات أسبوعية. وقامت البنوك العامة بإصدار شهادات إيداع بفوائد مرتفعة لجذب الأموال إلى البنوك مما يؤدي لتقليل من الطلب على السلع وضمان استقرار الأسعار.
وعندما تولى المحافظ الحالي للبنك المركزي المنصب، استمر في هذه السياسة ورفع نسبة الاحتياطي الإلزامي من ودائع البنوك في البنك المركزي إلى 18%، مما أدى إلى تقليل النقد المتداول.
لكن من فبراير/شباط إلى يونيو/حزيران من العام الحالي، أصدر المحافظ ذاته نقدا بقيمة 219 مليار جنيه (ما يطلق عليه عملية طبع النقود)، وهو إجراء يتناقض مع السياسات السابقة وكان له أثره على تباطؤ معالجة التضخم الذي بلغ مستويات قياسية في الأشهر الأخيرة.
ثانيا: استجابة لمطالب صندوق النقد الدولي وتوصيات المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، صدر القانون رقم 159 لسنة 2023 ليلغي الإعفاءات الضريبية للشركات الحكومية في الأنشطة الاستثمارية والاقتصادية.
لكن على عكس التوجه السابق، تم في الشهر نفسه إصدار القانون رقم 162، الذي يعفي المقاولين والموردين المشاركين في مشروعات هيئة المحطات النووية من جميع الضرائب والرسوم.
مثال آخر، ففي نهاية العام الماضي، أصدرت الدولة وثيقة تهدف إلى تقليل الدور الاقتصادي الحكومي وفتح المجال أمام القطاع الخاص لقيادة الاقتصاد، وذلك استجابة لمطالب صندوق النقد والبنك الدوليين.
ورغم ذلك، فقد صدر قرار من رئيس مجلس الوزراء يسمح للهيئة (العامة) للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس بالمشاركة في تأسيس شركة المنطقة الاقتصادية للاستثمار، التي تعمل كمطور صناعي، تنافس الشركات الخاصة في نشاطها.
ثالثا: دعت التوصية الـ23 من المؤتمر الاقتصادي إلى مراجعة كافة الرسوم على المستثمرين، وذلك استكمالا لقرار مجلس الوزراء في يونيو/حزيران من العام الماضي بعدم فرض رسوم جديدة عليهم.
ومع ذلك، تم تعديل قوانين ضريبية في يونيو/حزيران من هذا العام تفرض أعباء إضافية على الشركات والمواطنين. وظلت الجهات الحكومية تحتسب رسوما على الشركات، بل وزادت الرسوم في بعض الوزارات والمحافظات.
رابعا: طالب الصندوق الدولي في اتفاق القرض الجديد بمزيد من الشفافية في ميزانيات الشركات الحكومية والمشتركة والصندوق السيادي. ورغم مرور 8 أشهر على الاتفاق، فإن الشفافية لم تتحقق.
على عكس ما طلب الصندوق، زادت رقابة الدولة على البيانات المنشورة، ولا سيما بيانات الاستثمار الداخلي التي كانت تنشرها وزارة المالية والبنك المركزي، فقد حذف منها ما يتعلق بالقطاع الخاص، فجعل من المستحيل فهم الدور الفعلي للقطاع الخاص في الاستثمارات الكلية.
حذفت وزارة التخطيط أيضا بيانات استثمارات المشروعات المركزية، التي كانت تشير إلى استثمارات الجهات السيادية، وذلك في الخطة القومية للاستثمارات للعام المالي الحالي، مما أسهم في غموض استثمارات هذه الجهات التي تنافس القطاع الخاص بشدة.
خامسا: أثار قرار محكمة الأمور المستعجلة بتاريخ 25 من الشهر الماضي، الذي يتعلق برفع التحفظ عن الأموال المختلفة لحوالي 146 شخصا، تفاؤل القطاع الاقتصادي. واعتبر الكثيرون ذلك إشارة إيجابية للقطاع الخاص.
ولكن لم يستمر التفاؤل طويلا، فقد نشرت صحيفة “الوقائع الرسمية” خلال الشهر الحالي قرارات تتعلق بإدراج 119 مستثمرا جديدا على قوائم الإرهابيين، مما أضر بفعالية القرار السابق وأعاد فقدان الثقة، ومع الإضافات الأخيرة للقائمة بلغ إجمالي من أدرجوا في قائمة الإرهاب خلال العام الحالي نحو 1009 أشخاص.
وبناء على القانون 8 لسنة 2015، يؤدي إدراج اسم شخص في قائمة الإرهابيين إلى عدة تدابير، منها منعه من السفر، وتجميد أمواله، وفقدان شرط السمعة والسيرة لتولي الوظائف العامة.
سادسا: رغم مطالبة صندوق النقد الدولي بأن يلغي البنك المركزي مبادرات التمويل بفوائد مخفضة التي يقدمها لبعض القطاعات، فإن مجلس الوزراء أصدر في الشهر الأول من العام مبادرة جديدة لتمويل الصناعة والزراعة بفائدة 11%. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذه المبادرة حتى الآن.
وما حدث على أرض الواقع هو أن زادت أعباء القطاعات الاقتصادية بسبب رفع الفائدة مرتين هذا العام، مما أوصل معدل الفائدة إلى 19.25%. تضاف إلى هذه النسبة التكاليف التي تضعها البنوك التجارية عند تحديد سعر الاقتراض. وذلك في حين لا تزيد نسبة الفائدة في العديد من الدول الأخرى عن 5%. وكل هذا يؤثر سلبا على تنافسية المنتجات المصرية في الداخل والخارج.
سابعا: أعلنت مصر في أكتوبر الماضي اتباع سياسة سعر صرف مرن. وأعادت التأكيد على هذه السياسة في ديسمبر/كانون الأول عند إعلان اتفاقها الجديد مع صندوق النقد الدولي.
ورغم ذلك، فقد ثبّت البنك المركزي المصري سعر الصرف إداريا منذ منتصف مارس/آذار وحتى الآن. وأثر هذا على مصداقية البنك وأدى لظهور سوق موازية للصرف وأضر بتصنيف مصر وعدد من بنوكها دوليا، وهو ما أدى لارتفاع تكلفة الاقتراض الخارجي وزيادة صعوبته، فطال بذلك أمد أزمة نقص العملات الأجنبية.
وفيما يخص التوصيات الاقتصادية التي كانت تركز على الارتقاء بنوعية النمو الاقتصادي ليصبح مدفوعا بشكل أساسي بالاستثمار والصادرات عوضا عن الاستهلاك، فقد أظهرت بيانات البنك المركزي تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 46% مقارنة بالربع الأول من العام الماضي، وتراجع قيمة الصادرات بنسبة 19% خلال النصف الأول من العام الحالي.
ثامنا: أعلنت الحكومة عن سياسة ترشيد الاقتراض الخارجي. وحذرت توصيات المؤتمر الاقتصادي من الاستدانة الخارجية لتأسيس المشروعات الإستراتيجية.
ولكن ما حدث في حقيقة الأمر هو تزايد الاقتراض من الخارج بعد المؤتمر، وبدء مشروعات جديدة -وخاصة في مجال النقل- باستخدام القروض الخارجية.