بقلم: ابراهيم حيدر- النهار العربي
الشرق اليوم– تراجع التوتر الذي خيّم على الجنوب اللبناني خلال الشهر الماضي على خلفية بدء إسرائيل بناء جدار فاصل وتسييج الجزء اللبناني من بلدة الغجر المحتلة، ونصب “حزب الله” خيمة في مزرعة بسطرة على تخوم تلال كفرشوبا ومنطقة مزارع شبعا المحتلة. تبيّن أنّ كل التصعيد والتعبئة كان بهدف تثبيت خطوط تماس لا تُشعل الجبهات والمنطقة، وإن كانت إسرائيل مستمرة بغاراتها على مواقع إيرانية في سوريا. الوقت يبدو الآن هو لحماية التنقيب عن النفط في المياه البحرية اللبنانية، بعد وصول منصّة الحفر التابعة لـ”توتال إينرجي” إلى البلوك رقم 9 أو حقل قانا المتاخم للحدود البحرية الإسرائيلية، وضمان أمنها، فيما شهدت المفاوضات الإيرانية- الأميركية تقدّماً عبر الاتفاق الجزئي الذي حصل أخيراً برعاية قطرية، وانسحب تهدئةً على ملفات أخرى من بينها لبنان.
التأزّم الإقليمي الذي شهدته المنطقة منذ أسبوعين تراجعت حدّته أيضاً، مع استئناف التواصل السعودي- الإيراني، عبر زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى الرياض، لكن ذلك لا يعني تقدّم العلاقات على كل الخطوط، حيث لا يزال الاتفاق في اليمن معلّقاً، فيما تشهد الساحة السورية حشودات وتوتراً إيرانياً- أميركياً، في ظلّ تراجع الانفتاح العربي على دمشق. وحتى الآن لا يبدو أنّ الملف اللبناني يدخل في صلب الاتفاق، نظراً لتعارض وجهات النظر والاختلافات التي منعت حضوره في النقاش الثنائي، وإن كانت السعودية إحدى الدول الأساسية المقرّرة في اللقاء الخماسي الذي عُقد أخيراً في الدوحة.
تراجع منسوب التوتر الإقليمي، وإن كان نسبياً، لا يعني الساحة اللبنانية إلاّ من مدخل الحدود البحرية والتنقيب عن الغاز والنفط، إذ يشكّل وصول منصّة الحفر Transocean Barents إلى الرّقعة على بعد 120 كيلومتراً من بيروت في المياه اللبنانيّة مع طائرة هليكوبتر إلى مطار بيروت لنقل الفِرق إلى المنصّة، فرصة لتثبيت الهدوء، يظهر أنّه متفق عليها سلفاً بين “حزب الله” وإسرائيل برعاية أميركية ودولية، حيث تتولّى القوات الدولية العاملة في الجنوب اللبناني (يونيفيل) حماية المنطقة ورصد محيط البلوك 9 ومراقبة تنفيذ الاتفاق الذي وُقّع بين لبنان وإسرائيل، وهذا الأمر ينسحب على الحدود البرية التي تشهد هدوءاً رغم التصعيد الأخير والتهديدات بنشوب الحرب.
يمنح هذا الوضع قوات “اليونيفيل” دوراً استثنائياً، على الرغم من المطالبة اللبنانية بتعديل مهمّاتها، حيث يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة متوقعة أواخر آب (أغسطس) الجاري، لإقرار التمديد الجديد لعملها في الجنوب اللبناني. وبينما تسعى دول كبرى، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا، إلى إدخال تعديلات على نص مشروع التمديد لهذه القوات يوسّع صلاحياتها، يحاول لبنان تقليصها أو بالحدّ الأدنى إلغاء الفقرة التي تضمّنها قرار التمديد العام الماضي والتي تنصّ على حرّية الحركة لقوات “اليونيفيل” في الجنوب من دون تنسيق مع الجيش اللبناني، وهو مطلب لا يبدو أنّ الدول المعنية ستوافق عليه.
وعلى الرغم من التغطية الدولية لبدء عمل منصّة الحفر في البلوك 9، إلاّ أنّ ملف “اليونيفيل” يشكّل عنصر ضغط جديداً على لبنان، خصوصاً إذا أصرّت الدول الكبرى على توسيع صلاحيات “اليونيفيل” أو بتقليص عملها وتخفيف تكاليفها، طالما أنّها تُمنع من تأدية عملها كاملاً، علماً أنّ أجواء الأمم المتحدة تشير إلى أنّ التمديد سيعتمد صيغة العام الماضي، نظراً لصعوبات تعديل المهمّات توسيعاً للصلاحيات أو تقليصها، وإن كان لبنان يطالب على هامش التمديد بانتزاع اعتراف أممي بلبنانية الجزء الشمالي من الغجر، علماً أنّ الأمم المتحدة تعترف رسمياً بذلك، لكن تنفيذ هذا الشق اصطدم برفض السكان السوريين تحت الاحتلال الإسرائيلي، مغادرة الأراضي التي توسّعت تحت اسم الجزء الشمالي للغجر وتقسيم القرية.
كل هذه التطورات تشير إلى تهدئة في الجنوب اللبناني، أقلّه خلال الأشهر المقبلة، وإن كان يمكن أن نشهد توترات متصلة بالخروق الإسرائيلية وأيضاً بالضغوط، وعدم الالتزام بالقرار 1701، وهو ما أشار إليه تقرير الأمم المتحدة الذي تحدث عن خروق متبادلة بين إسرائيل و”حزب الله”، وأيضاً الاعتداءات على قوات “اليونيفيل”. ويبدو أنّ اتفاق الحدود البحرية يغلب على كل التصعيد والتوتير، على الرغم من الاستنفار والتعبئة التي تقوم بها إسرائيل في شمال فلسطين، والتأهّب المسلّح لـ”حزب الله” في الجنوب واستعراض ترسانته وقدراته العسكرية.
وبخلاف ما يحدث جنوباً، يتفاقم المأزق الداخلي اللبناني تبعاً للحوادث الأمنية المتنقلة في مختلف المناطق، وهي ترتبط بالملفات اللبنانية المعلّقة، خصوصاً استحقاق الرئاسة، وبالعلاقات بين القوى السياسية، لاسيما علاقات “حزب الله” بالأفرقاء السياسيين وتحديداً “التيار الوطني الحرّ” والمسيحيين. وإذا كان التوتر الأهلي بلغ مداه في المرحلة الاخيرة، ومرشحاً إلى مزيد من الفوضى، بخلاف التطورات على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، إلاّ أنّ الامور ليست مهيأة لانزلاق البلد نحو حرب أهلية، إذ لا يوجد سوى فائض قوة واحدة يملكها “حزب الله”، وبالتالي فإنّ الحرب تحتاج إلى أطراف تقتني السلاح وبيئة جاهزة للقتال، وهي غير متوافرة في البيئات الأهلية الطائفية، علماً أنّ الانقسام اللبناني وصل إلى مرحلة خطيرة، على وقع ما تفرضه قوى الممانعة من أمر واقع يزيد من طروحات الانفصال والتقسيم بين البيئات اللبنانية.
بين واقع الجنوب اللبناني ومنصّة الحفر البحرية والوضع الداخلي، تشتد الضغوط وتتكاثر الأزمات، وكأنّها مقدّمة لتطور يشكّل منعطفاً لإنجاز الاستحقاقات وانتخاب الرئيس، وتدور كلها حول “حزب الله” الذي بات في وضع مربك أمام الطوائف الأخرى، خصوصاً المسيحيين في المرحلة الراهنة. فالأوضاع غير المستقرة قد تتفاقم خلال الشهر المقبل، مواكبةً للزيارة المرتقبة للمبعوث الرئاسي الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان، لكنها ليست بالضرورة مؤشراً لإمكان الاتفاق على تسوية لانتخابات الرئاسة، بل هي تحمل دلالات أبعد، إذ لا يمكن فصل حادثة الكحالة مثلاً عن حوادث أخرى متنقلة في لبنان، ومعها التلويح الخارجي بإجراءات عقابية لمعرقلي الوصول إلى تسوية توافقية للملفات للخروج من الفراغ.
وبصرف النظر عمّا يمكن أن تحقّقه زيارة لودريان في أيلول (سبتمبر) المقبل، وما حملته لائحة الأسئلة للأفرقاء التي اعتُبرت إهانة للبنانيين، والمترافقة مع اشتداد الضغوط الإقليمية والدولية وعقوبات أميركية جديدة محتملة تطال شخصيات وكيانات تتخطّى ما فُرض على رياض سلامة، وتلويح دول اللقاء الخماسي في الدوحة باتخاذ إجراءات معينة، فإنّ ما يجري في البلد لا يؤشر إلى إمكان عقد تسوية في وقت قريب، باعتبار أنّ الأزمة باتت عميقة في ظلّ العجز الداخلي عن التلاقي لإنتاج الحل، وأصبح الصراع يطال هوية البلد ومساره.