بقلم: محمد قواص- النهار العربي
الشرق اليوم– حدثٌ فلسطينيٌّ بامتياز أن تقرّر السعودية في 12 آب (أغسطس) الجاري تعيين سفير فوق العادة غير مقيم في فلسطين، يشغل منصب قنصل بلاده العام في القدس. وإذا ما انصبّت التحليلات على مغازي القرار وتوقيته بالنسبة إلى الرياض، فإنّ على الفلسطينيين جمعياً، بكل فصائلهم المتعددة والمتنافرة أحياناً، البناء على الحدث لإعادة رفع الأولوية الفلسطينية داخل الأجندة العربية عموماً وتلك السعودية-الخليجية خصوصاً.
صحيح أنّ هذا التطوّر السعودي-الفلسطيني لا يمكن أن يبتعد عن مداولات واشنطن والرياض بشأن مسألة انضمام المملكة إلى الاتفاقات الإبراهيمية مع إسرائيل، بيد أنّ تحرّك المملكة، في هذا التوقيت وعلى خلفية هذا الضجيج، بالاتجاه الفلسطيني، يكشف حقائق ووقائع تتجاوز ما يتسرّب داخل الصحافة الأميركية والإسرائيلية بشأن ما حفلت به كواليس الإعداد للعلاقات المحتملة المفترضة بين السعودية وإسرائيل.
في قرار السعودية تعيين سفير لها لدى دولة فلسطين، إعادةُ تأكيد موقف سعودي عربي بدعم وتأييد قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، تملك دول العالم حقّ تبادل العلاقات الديبلوماسية معها. وفي هذا التأكيد تناقض كامل مع السردية الإسرائيلية عموماً وموقف رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين وشركائه في الائتلاف الحكومي، لجهة رفض الاعتراف بحقّ فلسطين والفلسطينيين بإقامة دولة بكامل المواصفات الدستورية والقانونية والسيادية التي يتمّ التعامل بها داخل منظمة الأمم المتحدة.
وإذا ما تفرّجت مداولات “التطبيع” عن خلاف سعودي- إسرائيلي في مسألة القبول بالمبادرة التي أقرّتها القمّة العربية في بيروت في آذار (مارس) 2002، وهي نسخة عن مبادرة سعودية قدّمها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، فإنّ تعيين سفير السعودية في فلسطين قنصلاً عاماً في القدس يمثّل صفعة للرواية الإسرائيلية بشأن نهائية وجود القدس موحّدة داخل الأراضي الإسرائيلية واعتبارها عاصمة لإسرائيل. يذكّر الحدث بمرحلة ما قبل عام 1967 حين كان حيّ الشيخ جراح في القدس يستضيف قنصليات السعودية ومصر ولبنان وسوريا ومكتباً لجامعة الدول العربية.
غير أنّ القرار السعودي المتعلّق بالتمثيل القنصلي داخل القدس يمثّل أيضاً تحدّياً ورفضاً لقرار الكونغرس الأميركي في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو القرار الذي أرجأ جميع رؤساء الولايات المتحدة تنفيذه إلى أن وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وقد استند ترامب الى قرار الكونغرس القديم لإصدار قرار في 6 كانون الأول (ديسمبر) 2017 بنقل السفارة الأميركية إلى المدينة.
ويأتي تقصّد القرار السعودي بتعيين قنصلها العام في المدينة ذكر “القدس” وليس القدس الشرقية، بسبب اعتراف المملكة بالقدس التاريخية، والتي يتحدّد مصيرها السياسي في أي تسويات تقيم دولة فلسطينية عاصمتها المدينة التي عيّنت السعودية فيها قنصلها.
يعيد الحدث فلسطين محوراً أساسياً للنقاش على أي طاولة لبحث مستقبل المنطقة ومستقبل علاقاتها مع إسرائيل. بمعنى آخر، فإنّ الرياض التي، ومن خلال المبادرة السعودية-العربية، لا تعارض قيام علاقات طبيعية مع إسرائيل، فإنّها، وبعد مرور أكثر من عقدين على تبنّي النظام السياسي العربي برمته المشروع السعودي للسلم في الشرق الأوسط، ما زالت لم تحدْ عن ثوابت التمسك بالحقّ الفلسطيني كشرط مسبق لأي عملية سلم كاملة مع اسرائيل.
يمثّل الحدث تطوراً يكشف عن عودة فلسطين إلى احتلال مكانة متقدّمة في خطط الإدارة الأميركية، طالما أنّ طرحها من جديد بات بنداً ثابتاً في المداولات الأميركية- الإسرائيلية- السعودية. ولئن تتدافع تقارير جادة بشأن توتر العلاقة بين إدارة الرئيس جو بايدن والقيادة الإسرائيلية الحالية، وإذا ما ينقل مراقبون للشؤون الفلسطينية في الولايات المتحدة تبدلاً نوعياً في مزاج الحزب الديموقراطي لمصلحة الطرف الفلسطيني من دون أن يستشرف الأمر انقلاباً في الموقف الأميركي، فإنّ الدفع السعودي يأتي ضاغطاً على واشنطن وإسرائيل لإحداث اختراق، لطالما اعتُبر مستحيلاً في المسألة الفلسطينية.
قد يكون الترحيب الذي صدر عن السلطة الفلسطينية ومنابر فلسطينية أخرى منطقياً ومتوقّعاً حيال الخطوة السعودية. ولا شك في أنّ القيادات الفلسطينية استنتجت علاقة الخطوة السعودية بالمداولات التي تحدّث عنها بايدن بشأن إمكانات تحقيق اختراق في مسألة تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. غير أنّ رفع السعودية علم فلسطين بهذه المناسبة، شرط (قد يكون تعجيزياً) للمضي بما تجاهر إسرائيل بالطموح إليه، هو في الوقت نفسه تحوّل وجب على الفلسطينيين تأمّله والعمل على تموضع استراتيجي حذق وخلاّق يلاقيه ويكون مكمّلاً له مستفيداً من فرصه.
الإسرائيليون غاضبون من الخطوة السعودية، لدرجة أنّ وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين قال إنّ إسرائيل لن تسمح بفتح بعثة ديبلوماسية سعودية لدى السلطة الفلسطينية، فيما نتنياهو وبقية صحبه لا يبدون أعراض أي مرونة بشأن إعادة مسألة فلسطين إلى أجندتهم. وإذا ما تصاعدت ضغوط الرياض (ومن ورائها دول المنطقة) وواشنطن (ومن ورائها الحلف الغربي برمته) على إسرائيل لإحداث خرق ما، فإنّ إسرائيل جاهزة لنقل الكرة إلى الملعب الفلسطيني والتعذّر بالانقسام الفلسطيني وإخراج كل عدّة الشغل المألوفة.
والأجدى أن يتجاوز الفلسطينيون مسائل الترحيب الديبلوماسي بخطوة السعودية ويعيدوا قراءة العالم وفق المستجدّ السعودي بشأن قضيتهم. فإذا ما أظهر الحدث أنّ فلسطين هي حاجة سعودية بامتياز، فحريّ أن يكثّف الفلسطينيون استثماراتهم السياسية الداخلية والخارجية، ليعيدوا تقديم أنفسهم شركاء لأي تسوية تشترط الحقّ الفلسطيني لقيام سلم عربي تقوده الرياض مع إسرائيل. وما هو مطلوب من استثمار فلسطيني، هو أن يلاقي السعودية والمجموعة العربية، من دون أي أوهام لدى الفلسطينيين والسعوديين والعرب بشأن جاهزية إسرائيل للتحوّل الاستراتيجي الكبير.