بقلم: يوسف بدر- النهار العربي
الشرق اليوم– يبدو أن عقلية النظام الإيراني لا تقبل التعامل معها إلا وفق سياسة العصا والجزرة من جانب الغرب، بخاصة أن حكومة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي ما زالت لا تراهن إلا على سياسة التوجه شرقاً، ولا تراهن على العودة إلى الاتفاق النووي من أجل دعم اقتصاد البلاد المتردي، لا سيما أن المواطن الإيراني يئن الآن من وطأة العقوبات والفشل الاقتصادي الذي لا تعترف به هذه الحكومة.
الانتخابات البرلمانية على الأبواب، ولدى هذا النظام قلق كبير من الفشل في تعبئة الناخبين إلى صناديق الاقتراع، في ظل الغلاء الفاحش وارتفاع مستوى التضخم واضطراب الأسعار واتساع حجم مَن يعيشون تحت خط الفقر ليشمل أكثر من ثلث الشعب الإيراني.
لكن النظام الداعم للحكومة المحافظة ولسياستها في التعامل مع الغرب قلق من عودة الإصلاحيين وسيطرتهم على البرلمان، بما قد يخلق حالة صراع بين الحكومة والبرلمان، ولذلك لجأ إلى المنابر التقليدية مثل خطباء الجمعة، فيقول أحدهم، أبوترابي فرد: “مَن يرى أن المشكلة الاقتصادية تكمن في خطة الموازنة التي تضعها الحكومة ويدرك مواطن الحل لأزمة التضخم؛ فليتقدم إلى الانتخابات البرلمانية”!
وكأن مجلس صيانة الدستور الذي يسيطر عليه المحافظون سيمنح الجميعَ صلاحية الترشح، بينما حقيقةً هو يقوم بغربلة المرشحين في إطار هندسة سياسية للانتخابات كما عهد هذا النظام!
عجز عن تجاوز الأصولية!
إن هذا النظام الخاضع لرجال الدين، دائماً ما يثبت لنا عدم قدرته على التخلي عن الأصولية في تفكيره، فبينما ينتابه القلق من قدوم شهر أيلول (سبتمبر) الذي تحل فيه ذكرى مقتل فتاة الحجاب، مهسا أميني، وبدلاً من تهدئة الرأي العام واجتذاب أجيال جديدة وشرائح مختلفة من الشعب الإيراني، ما زال يصر على مسألة الحجاب كأولوية أعلى من أزمات الشعب الذي يعاني صعوبة المعيشة والعجز عن توفير ضروريات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم وعمل، ويدفع هذا النظام النواب في البرلمان لتمرير قانون الحجاب الجديد، والرئيس الإيراني يتوعد بالتخلص من ظاهرة التمرد على الحجاب بدلاً من الاعتراف بخيبته وفشله الاقتصادي! ورئيس لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كاظم صديقي، يقول إن “كشف الحجاب ليس ذنباً مثل باقي الذنوب، بل هو عداء مع دين الله!”، ويطالب العاملين تحت إمرته بالتحرك بقوة في الشوارع وعدم الخشية من شيء! بينما رجال الدين المعتدلون، ومنهم آية الله سيد حسين موسوي تبريزي، يعلنون صراحة أن “ما تقوم به السلطة من مطاردة للنساء المخالفات للحجاب ومعاقبتهن، يتعارض مع مبدأ الحفاظ على كرامة المرأة، وهذا أمر أوجب”، فما بالنا بكرامة شعب يعيش اقتصاده على التهريب، بينما حكومته المحافظة تتحدث عن الإنجازات!
لكن مثل هذه الأصوات مرفوضة في ظل نظام يخشى من تجاوز أفكاره الأصولية، ولا يمكن إقناعه إلا بسياسة الترغيب والترهيب (العصا والجزرة) التي هي من طبيعة عقليته الدينية!
إذ بينما يضحك المتشددون وهم يتبادلون في ما بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي صورةً لجدار وباب السفارة البريطانية في طهران، بعدما قام أحد المتشددين من جبهة الثبات (پايداري) المتشددة بكتابة شعارات مهينة للدولة البريطانية على باب سفارتها، نجد الشباب الإيراني ينتقد عقلية هؤلاء المتشددين الذين يحكمونهم، والذين يتحمل تكلفة جنونهم الشعب الإيراني؛ حيث ستتم إدانة طهران قانونياً على مثل هذا السلوك بغرامة لن تقل عن 500 ألف باوند إنكليزي تُدفع من جيب الشعب الإيراني!
بل إن وكالة “إيسنا” الطلابية، انتقدت ما فعله هؤلاء المتشددون، معتبرة أن سمعة إيران الخارجية باتت سيئة بسبب مثل هذه التصرفات غير اللائقة بتاريخ إيران وحضارتها، وأن الشعب الإيراني سيعاني فرض مزيد من العقوبات من جانب بريطانيا بسبب سلوك هؤلاء المتشددين، مُلمحة إلى أن مثل هذه التصرفات غير العقلانية مخططٌ لها وغير عفوية أو فردية!
العصا والجزرة!
لم تتراجع إدارة الرئيس بايدن الديموقراطية عن رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015، لكنها أدركت أن عقلية المحافظين في إيران لا يمكن التعامل معها إلا بمبدأ العصا والجزرة أكثر من مبدأ الحوار والنقاش على طاولة المفاوضات، بخاصة أن المحافظين في إيران يتنفسون على استمرار التوتر مع العالم الخارجي والصراخ من المؤامرة على نظامهم، ولذلك منذ مجيء هذه الإدارة، قال وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن: “ما زال أمامنا طريق طويل للوصول إلى اتفاق مع إيران”.
فالمحافظون جانبهم غير مأمون، ومن الممكن أن يضعوا إدارة بايدن في حرج أمام الجمهوريين أو الإسرائيليين؛ لأن العداء مع الولايات المتحدة بالنسبة إليهم أمر أصولي واستراتيجي، ولذلك لم تتنازل إدارة بايدن عن فرض العقوبات على هذا النظام.
وقد أثبتت الأيام صحة رؤية هذه الإدارة؛ فصحيفة “طهران تايمز” كشفت في تقرير لها أن المتشددين هم مَن أطاحوا المبعوث الأميركي الخاص بإيران روبرت مالي الذي ساعد في صوغ اتفاق عام 2015، وكاد ينجح في إتمام اتفاق موقت بين واشنطن وطهران، ولكن المتشددين أرادوا إفشاله!
وهنا لجأت الإدارة الأميركية إلى العصا، فقامت بتعزيز الوجود العسكري الأميركي في محيط إيران، بخاصة في مياه الخليج، ما رفع من مستوى التوتر بين واشنطن وطهران، وهنا أدرك الإيرانيون أن إدارة بايدن تعزز وجودها في مياه الخليج لأن صراعها لا يقتصر على روسيا والصين بل يستهدف إيران أيضاً التي باتت تمثل التهديد الثالث للأمن القومي الأميركي، وأن الأميركيين لن يسمحوا بتكرار حرب الخليج الثانية التي اعتدى فيها صدام حسين على الكويت.
ثم جاءت الجزرة! يوم الخميس 10 آب (أغسطس) بالإعلان عن اتفاق مشروط لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، وكذلك الإفراج عن جزء من أموال إيران المجمدة في الخارج مقابل خفض مخزون اليورانيوم المرتفع التخصيب لدى إيران، وذلك بعد فرض واشنطن مزيداً من الضغط العسكري والاقتصادي على طهران، مع اقتراب ذكرى حوادث احتجاجات أيلول (سبتمبر)، وفي ظل وضع معيشي حرج واقتراب استحقاق الانتخابات البرلمانية، ما دفع النظام الإيراني إلى الاستثمار في هذا الاتفاق خشية من خسارة داخله وخارجه؛ إذا ما تجددت الاحتجاجات وفشلت الانتخابات البرلمانية.
اذبحوا بقرة!
هذه العقلية الأصولية نفسها التي تحكم إيران، والتي لطالما تصعد على المنابر وتتحدث للشعب عن قصة البقرة الصفراء وبني إسرائيل الذين فضلوا اللجاج والجدال والمماطلة في الوقت مع النبي موسى، هم أنفسهم يفعلون ذلك أيضاً ويفضلون الجدال وتضييع الوقت كما فعل بنو إسرائيل، حتى أنهم بأيديهم عاقبوا أنفسهم وشددوا عليها؛ فإن إيران هي التي رفضت طمأنة دول الخليج منذ بداية برنامجها النووي ورفضت أيضاً مشاركتهم في محادثاتها النووية مع الغرب، وكذلك أعطى متشددوها المبررات للرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، للخروج من الاتفاق النووي عام 2015.
وهؤلاء أيضاً الذين هم سبب الفشل في العودة إلى هذا الاتفاق، قد وجدوا أنفسهم ضحيةً لأفعالهم؛ فقد فشلت مشاريعهم التنموية، وخطة التنمية الاستراتيجية 2025 معطلة، وممر شمال-جنوب الذي من المفترض أن يضع إيران على خريطة التجارة العالمية متأخر، بل إن حلمهم بالانضمام إلى مجموعة “بريكس” لتكون إيران حلقة الوصل بين مؤسسي هذه المجموعة (البرازيل وجنوب أفريقيا وروسيا والصين والهند)، يظل نجاحه مرهوناً برفع العقوبات الغربية التي لا يفلح المحافظون إلا في تشديدها على الشعب الإيراني بدلاً من رفعها عن كاهله!
وهذه العقلية نفسها هي التي أتت بالإسرائيليين إلى منطقة الخليج، حتى أن السعوديين باتوا يشترطون المعاملة بالمثل مع إيران، إذا ما قبلوا التطبيع مع إسرائيل، بأن يُسمح لهم بحق تخصيب اليورانيوم على أراضيهم، مثلما تفعل إيران.
بل حتى مجموعة آي تو يو تو (I2U2) للتعاون الاقتصادي بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، تستهدف إيران التي تريد أن تهيمن على المنطقة؛ فرباعية هذه المجموعة تغطي ثلاث نقاط استراتيجية في مسار التجارة الدولية تبدأ من قناة السويس وشرق المتوسط نزولاً إلى باب المندب ومضيق هرمز؛ وإن كانت أهداف الولايات المتحدة من هذه الرباعية تتجاوز إيران لاحتواء الصين!
ومظاهر أخرى لما جنوه على أنفسهم؛ فبينما يتشدق النظام الإيراني بقوة علاقاته مع الجزائر، ونعرف أن هذه العلاقات مبنية في زخم الصراع الجزائري المغربي بخصوص ملف الصحراء والبوليساريو، نجد مطاردة إيران وهوس طموحات متشدديها يمتد إلى دولة المغرب، حتى أن مجلس الشيوخ الأميركي قدم عرضاً لضم المغرب إلى القيادة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (سنتكوم)، بهدف التصدي للتهديدات الإيرانية في المنطقة!
حتى في العراق واليمن، ليس الأمر كما يصور النظام الإيراني لأنصاره المهووسين بنموذجه، بأن الشعب العراقي أو اليمني يأتمر بإمره الولي الفقيه في طهران وينتظر إشارة منه لاقتناص الأميركيين في المنطقة؛ بل على العكس ما زالت الحكومة العراقية تصر على استمرار تعاونها العسكري مع واشنطن لتخفيف وطأة طهران عليها، وفي اليمن ما زال الحوثيون قنبلة موقوتة يمكن أن تنسف اتفاق المصالحة الإيرانية-السعودية التي يتشدق المحافظون بأنها إنجاز كبير حققته حكومة رئيسي!
كل هذا المظاهر من الأخطاء الاستراتيجية، ولا أعرف كيف يدّعي النظام الإيراني أنه مشارك فاعل في إعادة رسم خريطة المنطقة وتشكل العالم الجديد المتعدد الأقطاب؛ بينما الواقع يقول إنه نظام مفعول به، بيد حكامه المتشدديّن الراسمين لسياسته الداخلية والخارجية، قبل إلقائه أي مسؤولية على عاتق القوى الإقليمية أو الولايات المتحدة الأميركية، وإن هذا النظام لا يفهم إلا سياسة العصا والجزرة التي يتقنها وقتما يقوم بترهيب أنصاره وترغيبهم!